"التاريخ يكتب في آن واحد من مواقع عديدة أو منظورات مختلفة"

فرنان بروديل

كيف يتناول "الأديب" التاريخ فيما يكتب من أدب وخاصة السرديات؟ بمعنى أدق كيف يعالج الأديب – مهما كان نوعه – واقعة تاريخية، أو حدث تاريخي، فيما يكتب من أدب، كأن يكون شعراً، أو قصة، أو رواية، أو مسرحية حتى.

   عندما نطلق تسمية "أديب" على من يكتب خبراً تاريخياً بثوب سردي، فهذا يعني أن هذا الكاتب يختلف عن المهتم بالتاريخ، كاتبه أو دارسه، لأن إطلاق صفة الأدباء والأديب على شخص ما، هي أن كل ما يخرج من تحت قلمه يعد كتابة أدبية وليست كتابة تاريخية. وهناك فرق كبير بين من يكتب تاريخاً، وبين من يكتب أدباً يعتمد التاريخ.

   ان كل القصص التي حدثت في الواقع جيدة، ورائعة، وقد تم الاخبار عنها في السابق عدة مرات. إلّا ان الروائي الجريء هو من يجد طريقة مغايرة وجديدة لقصها وسردها مرة أخرى تختلف عما كانت عليه كخبر تاريخي.

   لهذا يمكن القول ان للتاريخ رجاله وللرواية رجالها. فبينما يتناول رجل التاريخ الأحداث والوقائع التاريخية من وجهة نظر الناقل والدارس لها ككاتب مؤرخ يؤكد على مجريات الاحداث والشخصيات والتواريخ. يكتبها الأديب بصورة تقف خلفها شروط الرواية "أو النوع الأدبي الذي يتناول ذلك الحدث أو تلك الواقعة التاريخية" وقوانينها التي تعارف عليها كتّابها ودارسوها كافة. ومن أهم هذه الاشتراطات التي غابت عن الكثير من روائينا هو عمل المخيال النشط.

   فالمخيال هو من أهم الأمور التي تجعل رواية الواقعة أو الحدث التاريخي أدباً يختلف عن الخبر التاريخي الجاف.

   قلت مرة عن روايات الكاتب عبد الكريم العبيدي: "...ان تردي الصناعة والزراعة والاقتصاد هي ظواهر مخلفات الحرب. وقد تناولتها الرواية لا كما يفعل الصحفي في تقديم ريبورتاج عن ذلك، بل أدخلها الروائي في معمله السردي". 

   وهذا ما تريد أن تؤكد عليه هذه الدراسة في عمل المخيال بين كلمات الرواية و سطورها.

***

ان مما دعاني الى كتابة هذه السطور هي رواية "دَمُهُ" للروائي محمد الأحمد، وما كتبه على الصفحات: 7 ، 8 ، 9 ،10 ،11 . إذ أورد الكاتب مقولات عديدة ومختلفة، منها لقائل معروف، ومنها للكاتب نفسه. ولم نقرأ، ولو تلميحاً، في تلك المقولات انه سيكتب رواية عن قصة تاريخية، بل الأكثر من ذلك انه قال:"الإجراء الوحيد الذي يمكننا اتخاذه، بشأن الشائن من التاريخ المكتوب، هو إعادة كتابته".

   اذن هو يعيد كتابة التاريخ، إلّا انه لم يشر الى الكيفية التي يعيد بها كتابته .. هل يعيد كتابته أدبياً بشكل رواية فنية ناضجة تنطبق عليها اشتراطات الرواية؟ أم انه يعيده بشكل معاصر ولكن بثوب تاريخي؟ كما يقدم مختص علم التاريخ خبراً ما بصيغة مقال، أو دراسة تاريخية أيضاً؟

   والذي يدعم هذه النظرة هو ما كتبه على غلافها الأخير من كلمة جاء فيها:"والرواية مكتوبة بطريقة سردية اعتمدت الاختزال والفصول القصيرة، لأجل أن تجعل القارئ العربي والعالمي يُلم بأسرار تلك الليلة الرهيبة. رواية لا تذكر أسماء لأنها مدخل معرفي لقراءة جديدة في كتب التاريخ العديدة، المختلفة المدارس والأهواء بحسب العقائد والمصالح. تروي بيقظة لتدرس الكيفية الحقة لسقوط الدولة الأموية وصور أغلب حكامها بجميع وجوههم المقنعة، إنها تكشف نزواتهم لأنها السيرة الكاملة لطبيعة ذلك العصر".

انه يتناول تلك الحادثة من جديد لتكون "مدخلاً معرفياً لقراءة جديدة في كتب التاريخ"، وليس كتابة رواية معرفة تضيء الحادثة التاريخية، وتقدمها بإسلوب روائي.

   وأيضاً فالغاية من كتابة هذه "الرواية" هي أن "تجعل القارئ العربي والعالمي يُلم بأسرار تلك الليلة الرهيبة"، ولم يقل لنا. كيف لنا وللقارئ العربي والعالمي أن نعرف أسرار تلك الليلة الرهيبة؟

   هل نعرفها كما دونها الكاتب بالصورة التي يكتبها المختص بالتاريخ؟ أم نعرفها كما يكتبها ككاتب رواية تنطبق عليها اشتراطات الرواية الناضجة؟ إذ يجب ان يغيّر من اسلوبها التاريخي الى اسلوب أدبي/ روائي، فيدخل عند ذاك المخيال في هذه اللعبة الكتابية.

   إذ للمخيال دور كبير في تحويل الخبر التاريخي الى رواية فنية ناضجة، رواية أدبية، سرد روائي لا سرد تاريخي.

***

   ان الذي عرفناه من هذه "الرواية" هو ذبح شخص ما، كما تذبح الضحية في عيد الاضحى:"ايها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضّح بالمعلم، انه زعم ان الله لم يتخذ ابراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليما". ولا أريد أن أحمّلها أكثر مما تحتمل كرمز سياسي في عصرنا الحالي. ورغم ذلك الذبح فإننا لم نعرف الأسباب المؤدية له. والأسباب هي الأجدر بأن يكتب عنها رواية ناضجة، لا ساعة الذبح التي بنى الكاتب كتابته عليها، أو ما أسماه رواية.

   ان ما أورده الكاتب من سبب لذبح "الجعد بن درهم" لم يكن كافياً بالصورة التي جاء بها. حيث يذكرها على لسان إحدى الشخصيات وبسطرين فقط، حافية من كل ظلال السرد الروائي.

   كان على الكاتب أن يبتعد كثيراً عن الاسلوب التاريخي في الكتابة ويقترب أكثر - مهما أوتي من قوة - من الأسلوب الأدبي السردي. عليه أن يطرح الأسباب الموجبه لهذا الذبح والتضحية بالجعد في أول أيام عيد الاضحى بصيغة أدبية/ سردية.

   كان عليه ان يناقش - على طول الرواية - الأفكار التي جاء بها الجعد نقاشاً أدبياً سردياً، و ليس بالاسلوب التاريخي الفج من الناحية الأدبية خاصة.

   كان أغلب الفصول "مقاطع الرواية المرقمة" تخلو من الصنعة الروائية. هي عبارة عن الاخبار عن شيء يحدث كما يكتبها رجل التاريخ. انظر على سبيل المثال المقاطع على الصفحات "13 ، 17 ،23 ،33 ،39 ،74 ، 75 ،80 ،81 ،82 ،86 ،92 ،96 ،98، 100 ،109 ، 112 ،115 ،120 ،122 ،123  ، 125"، إذ جاءت بتعبير اخباري جاف وقصير .

   وأنا هنا لا أدعو الكاتب الى أن يكون صادقاً مع الواقع، ويترك الصدق الفني الذي يمتاز به كل عمل أدبي، بل عليه أن يكون في روايته هذه صادقاً فنياً دون أن ينسى الصدق الواقعي التاريخي الاخباري الذي يجب أن يتداخل بين كلمات الصدق الفني، و هذه من مهمة المخيال الأدبي النشط عند الروائي الحاذق.

   ان رواية "دَمُه" هي رواية أراد منها كاتبها أن تقدم موضوعاً تاريخياً حدث قبل أكثر من 1300 سنة بطابع أدبي سردي، إلّا انه فشل في ذلك، وبقي الخبر تاريخاً دون أن يكون أدباً.

***

ما لم يقله الكاتب بصيغة أدبية سردية، ولا يعتمد الاخبار التاريخي الجاف، هو ما ذكرته المصادر عن موقف الجعد من أمور كثيرة في الاسلام، من مثل:"أراد الجعد أن يبالغ في توحيد الله وتنزيهه، مما دفعه إلى القول بنفي الصفات التي توحي بالتشبيه وتأويلها، ومن بينها صفة الكلام، مما أدى به إلى أن يقول بخلق القرآن، وقيل أنه تأثر في قوله هذا بـأبان بن سمعان الذي كان أول من قال بخلق القرآن من أمة الإسلام، كما إنه كان ينفي أن يكون الله كلم موسى تكليماً، وأن يكون قد اتخذ إبراهيم خليلاً، فطلبه بنو أمية، فهرب إلى الكوفة".

   وكان على الكاتب "الروائي" أن يطرح هذه الامور التي أدت بالوالي الى ذبحه والتضحية به في أول أيام عيد الأضحى في روايته طرحاً أدبياً بعيداً عن طرح المهتم والدارس للتاريخ.

   إذن، على الروائي أن يكون بعيداً عن الكاتب التاريخي، خوفاً من أن يعديه مما يتصف به من ميزات، وأولها ميزة الجفاف في كتابته التاريخية.

فالتاريخ يكتب في آن واحد من مواقع عديدة أو منظورات مختلفة كما يقول فرنان بروديل.

عرض مقالات: