بما ان الموسيقى والغناء لغة تعبير انسانية عامة، لها مقوماتها الاساسية وتكويناتها المادية والروحية، وتفترش المساحة الفاصلة مابين وسيلة التعبير وغاية التعبير، فالغناء والموسيقى يبقيان حاجة روحية دائمة لابد منها وضرورية ايضاً. وتبقى الاغنية لديّ هي احد روافد الثقافة لا كما يصنفها الكثيرون على انها وسيلة ترفيه فقط. ونظراً لخواص الموسيقى والغناء ونوازعها الانسانية في التعبير، فلابد لها ان تكون خير معبر عن واقع مجتمعاتها التي تنطلق منها، حيث يكون خطها البياني طردياً وحركة المجتمع ضمن خطى متوازية بمعية تقدم وتحضر المجتمع، لتكون عند العلامة ابن خلدون اخر مايحصل في العمران الحضاري (وهي اول ماينقطع من العمران عند تخلفه وتراجعه)، على الرغم من ان النبع الاساسي في تكوين لغة التعبير الموسيقي والغناء تحديداً، هي تلك الحسية الفطرية التي تختزل الرؤية في المضمون والشكل. وعند تطور المجتمعات اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً يتغلب لديها البعد الفني التعبيري الراقي ويفوز بمساحة كبيرة من التثاقف، ويحاول طمس ماهو موجود من ابتذال فني وثقافي، اما حين تنحدر حركة المجتمع نحو قاع التخلف والجمود العقائدي والحضيض، فالامر ينعكس كذلك فيكون مساعدا على طمس كل ماهو جميل وذو فنية راقية، ويكون مسموحاً في فسح المجال لنشر ماهو استهلاكي مبتذل ورخيص، رغم مالها من مقومات فنية ساذجة، يساعد الاعلام على الترويج لها.

وهذا ماجرى خلال حقبة تسلط حزب العفالقة على مقاليد حركة الحياة في العراق، وقد توضحت تكويناته واهدافه وغاياته منذ العام 1979 لتنطلق المحرقة التي دامت ثماني سنوات من الحرب مع ايران، وغزو دولة الكويت، اضافة الى الحروب الداخلية بشكلها التعسفي السافر والدموي. ان اجواء الحروب المتوترة واشاعة ثقافة المسدس واللباس الزيتوني تحت يافطات المهرجانات مدفوعة الثمن، بما فيها تلك المشاركات خارج القطر ضمن الوفود الرسمية او الفردية. ان هذه الثقافة ما كان لها ان تخرج لنا باغنية ذات بعد انساني حقيقي غير مزيف او بعبارة اخرى غير ممسوخة الفعل الثقافي، لتكون مشوهة البعد الطبيعي والحضاري عندما تكون ضمن اطار التوافقية مع الرقيب الثقافي الفني، الذي تحرك بابداع كبير والعقلية الايديولوجية لحزب كان يتدخل في كل مفاصل الحياة الثقافية والسياسية والاجتماعية، وفق مامرسوم له وما توفرت له من امكانات مادية كبيرة وآليات لها نتائج واضحة الفعالية والممارسة والنتائج استحقاقاً للحياة السياسية والاقتصادية، التي كان لها من التاثير الواضح على عموم النتاج الموسيقي والغنائي العراقيين. ان الوجوبية في تسليط الضوء على الموسيقى والغناء خلال حقبة تسلط ثقافة حزب العفالقة الفاشست، مع التأكيد على البعد الانساني المرتجى كحد فاصل مع تلك المواقف الانتهازية واللامسؤولة تجاه حقبة تاريخية عصيبة مازال الكثيرون من منتجيها ومروجيها، لم يعلنوا صوتهم صراحة تجاهها لما افرزته من واقع يتغاضى البعض عن الخوض فيه رغم خطورته الكبيرة كرافد ثقافي وبيان سلوكي يومي للمجتمع.

وهنا لابد من التشديد على عدم الخلط في تغليب النقاش النظري حول الابداع والموهبة على الموقف الانساني، خاصة عندما يمر الشعب في فترة حرجة تاريخية، صنعت لنا الهزائم والتخلف في كل نواحي الحياة، حينما تكون لها ابعاد خطيرة في تناسي بعدها الانساني الضروري والمطلوب، فمثلما كانت هنالك حملة ايمانية لتهميش وتسخير الدين الاسلامي الحنيف لصاحب السلطة وعائلته، كانت هنالك اغنية عراقية قوية الفعل بما توفر لها من شبكة اعلامية وخدمات تسويقية تصب في مجرى ديماغوجية مبتغيات فكر سلطة العفالقة وثقافته، حتى الاغنية العاطفية التي تهافتت على المسخ والانجذاب نحو روحية وشكل اغنية الحرب والتمجيد، على صيغة الجملة الواحدة والايقاع الراقص الهتافي الترتيل، حتى تلك التي تغنى بكلمات فصحى. ان توضيح البيئة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، لابد لها ان تعطينا توضيحاً ضرورياً لفهم ماوصلت له مؤسسات سلطة العفالقة من تخريب، وهي خير بداية نحو تأسيس ارضية انطلاقة جديدة، ويتطلب منا عدم القفز على هذا الواقع الواضح في استمراريته اليوم، عندما يحاول السياسيون العراقيون غض الطرف والتناسي وعدم الخوض فيه وهم منتشون لامتلاكهم السلطة والمحاولة في تسلسل الصخب الاعلامي عبر سياسة الترقيع اعتماداً على ركائز ثقافة ماقبل التاسع من نيسان، وهم من كانوا يتسابقون في معارضة ثقافة العنف والاستبداد، ثقافة الدكتاتورية الوليدة شرعياً من مؤسسات سلطة التصفيق والمكرمات والادلجة العفلقية. ان الخراب الروحي للموسيقى والغناء الذي خلفته قرارات ودسائس الحكم الساقط، لابد ان يزول وتعاد العافية الحقيقية لهذا الفن وخصوصيته العراقية، لابد ان تعود من خلال اتباع سياسة ثقافية اعلامية حقيقية تناقض ماسبق، لاالسير على خطى مارفضناه عبر نفس الهياكل الادارية وقرارتها ورجالها الذين كانوا مخلصين في انتاج وابداع ماهو خال من الموقف الانساني الوطني، بل على العكس كانوا من حملة يافطات التطبيل. ولاجل انطلاقة حقيقية لابد من تسخير كل الامكانات المادية والاعلامية في توضيح الخصوصية الفنية للاغنية العراقية وموسيقاها عبر نشر وتسجيل وعرض صنوف التراث الشعبي العراقي وفلكلوره وتاريخه الموسيقي والاغاني وتواصل حلقات النقاش والبحوث العلمية والدراسات البناءة لخلق قاعدة رصينة لتكوين جو فني مساعد على خلق اغنية عراقية طبيعية غير مفتعلة، اغنية معبرة تحمل ارث بيئتها الكبير وملامحها العراقية المميزة لها في التفاصيل والرؤية، وان تدفع على التواصل المترادف مابين الاصالة والحداثة من دون تنافر وتشويه وافتعال صاخب. ولا يُغفل ما للاعلام من دور في تشجيع التواصل مابين ثالوث مبدعي الاغنية (الشاعر، الملحن، والمطرب) من خلال متابعة نتاجاتهم وفعاليات ورشهم الفنية، مع اهمية وضع ميزان الاهمية الابداعية المتساوية عندهم من دون تميز اعلامي ثقافي. حيث يتفاعل جهدهم الابداعي في خلق اغنية لها غاياتها الخاصة التي تتطابق او تتقاطع مع مايريده الواقع، ليبقى النقد الفني الحقيقي هو المقوم والمؤشر القادر على فحص وتشخيص الاغنية ضمن حركة الحياة اليومية ومتطلباتها الاساسية في التثاقف والبناء لحركة المجتمع والمستلذات الروحية الانيسة للفرد ككائن بشري يطمح نحو الافضل.

عرض مقالات: