السرد الروائي.. فعل ابداعي يعبر عن واقع انساني متناقض ومتصارع في ذاته، ويوظف لغة يومية مع تنوع تقنيات السرد "استباق، استرجاع، تذكر واستذكار، حدث، حوار بشقيه "ذاتي وموضوع" زمان، مكان بنوعيه المغلق والمفتوح وتتشابك فيه الرؤى والمواقف والافكار وتتجسد قيمته الجمالية والدلالية بمقوماته وانتماءاته.
ويتجاوز النص الروائي القصير "كائنات البن" الذي نسجته الشاعرة بلقيس خالد المألوف بتجريبيته من اجل تحقيق الذات واستفزاز القارئ ونبش خزانته الفكرية لاستنطاق ما خلف مشاهدها التي تعتمد مرتكزين موضوعيين: أولهما ذهني ـ نفسي يقترن بالإنسان وذاته.. وثانيهما واقعي يقترن بالإنسان وجودا باعتباره فكرا يشغل حيزه الفراغي بفعله..
وقبل اقتحام المتن السردي يستوقفنا الخطاب المقدماتي المؤثث بعتبات نصية موازية تشكل المداخل الرئيسة لعوالمه المشهدية المؤطرة بوحدة موضوعية.. ابتداء من العنوان العلامة السيميائية الدالة والنص المراوغ المتعالق والعنوانات الداخلية للمشاهد، اضافة الى النص الشعري الومضي المفتوح الذي تخلى عن العنونة واعلن عن متغيرات الحياة، مثل طفل رضيع، يتغير وجهه، في كل ثانية" قدرنا" فضلا عن حضور المكان البؤرة الثقافية المضافة الكاشفة عن التحول السلوكي الذي لازم المشاهد النصية بدرامية حركية: "بعصا اشار نحو جدار الكهف وضرب على الجدار ثلاث ضربات خفيفة مشيرا الى نقطة التركيز.. هامسا:
ـ نسوة....
ـ ضحك:نسوة؟ أين..؟
ـ هنا.. المشهد واضح.. ما تحتاجه انت هو الفطنة.. واذكرك.. اخفض صوتك..
تلفت نحوهم: هل ترون.. ما رأت عصاه وهي تضرب الجدار؟
رؤوس كالبندول..
ـ عليك بالصمت انت تربك المكان بضجيج موهوم
تساءل ضاحكا: أربك المكان؟ أي حالم نتبع نحن المنقبون بالوراثة عن التاريخ سعيا لحاضر خضل".
يكشف النص عن تجربة مستلة من فضاء الوجود المتميز بشحناته المتصارعة وتفاعل مفرداته من خلال اقتناصها اللحظة والكشف عن دلالاتها باقتصاد لغوي ورمز يفرض على المستهلك "المتلقي" التأويل بتحريك قواه الفكرية من اجل استنطاق الواقع والاعلان عن احتجاجه ضد خفافيش الظلام الداعشي، فضلا عن توظيف الجزئيات بطريقة اسهمت في تطوير البناء الدرامي بوصفها وسائل كاشفة عن اعماق الشخصية واحاسيسها ومن ثم تطوير الحدث تصاعديا.. اذ يتداخل الحكي والتخييل السردي بشكل "استرجاعي يقوم بوظيفة الادراك او ابداعي يقوم بوظيفة التحليل والتجزيء على حد تعبير كولردج.. بلغة تتماهى ولغة الشعر مع توظيف تقنيات واساليب سردية ضمن رؤية جمالية كالحوار بشقيه باعتباره وسيلة للتعبير عن الافكار والرؤى الشخصانية لنقل حركة الحدث وتقديم الشخصيات الروائية بوحدات كلامية منتجة للدلالة في خط الفعل الدرامي فتكشف عن وعي الشخصية وهي تتخذ مسارين: اولهما الحوار الذاتي الداخلي الذي هو حوار الذات والنفس..
"لا قدرة لي على النهوض.. تخذلني حنجرتي في العويل.. انا المفجوعة:1700 شذرة قفزن من محابس الخائبات.. بذرت بارض خصبت باعيننا..
لم اعد قادرة على النهوض.. والسماء بكل ما فيها بعيدة جدا.. الا من هذا الليل المترهل الجاثم مثل الخيبة على الامل.. الهي.. اضرت كل الوالدات بأولادهن ولا شيء.. لا شيء سوى حناجر معطوبة الاوتار".
وهناك الحوار الموضوعي "الخارجي" وهو الوسيلة الكاشفة عن وعي الشخصية ثقافيا واجتماعيا ونفسيا ضمن وحدة اسلوبية وموضوعية والذي يسهم في ابطاء السرد وغياب الراوي العليم... واستنطاق افكار المتحاورين للكشف عما يدور في دواخلهم..
ـ امي.. اذهبي ودعيني..
صاحت بحرقة
.....................................
ـ ويلي ويلي..
ـ امي.. ما بك توا ذهبت مثل ريح..
ـ المسكينة قارئة الفنجان.. يا ويلي.. يا ويلي..
ـ ما بها..؟
ـ وجدوا ابنتها وزوج ابنتها وحفيدها وحفيدتها في سيارتهم بالقرب من محل ازياء ميتين.. يقولون حدث تصادم اثناء انفجار عبوة ربما قتلتهم الشظايا او.. التصادم او الصدمة لا ادري ماذا.. ما وصلوا للسوق ولا اشتروا البدلة التي تمنتها حفيدتها.. الانفجار اوصلهم الى الآخرة..
ويستدعي النص التاريخ بأحداثه تحديدا بين 2006 حتى 2008 وحادثة سبايكر بأسلوب خال من التعقيد والمتاهات وبلغة خالية من التقعر.. خليط من اللهجة المحكية والفصحى لتمنح نصها ظلالا ابداعية تحمل نكهة شعبية حياتية من جانب ومن جانب آخر كي ترقى باللهجة العامية الى لغة شفيفة قريبة من النفس تضفي على النص رقيا في ادائه التوصيلي.. "يتلقاها شليل امي" و"صايرة دايرة" و"نتناول الريوك معا".. هذا يعني ان الساردة تعكس صورة البيئة بكل مكوناتها والشخصية ووعيها مع اضفاء سمة الغرائبية المتداخلة والواقعية الحديثة التي تسبح بينهما حكايات عشق لم تكتمل من اجل اضفاء عنصر التشويق والتقليل من حدة المأساة..
الاولى لفلاح ماتت حبيبته بجريمة اغتصاب من قبل عصابة ظلامية مجهولة "ارتجف من كان فلاحا.. تلفت ولا يدري ماذا يريد.. ماذا سيفعل.. تساءل: هل ماتت؟ أومأ الآخر براسه مرتين للأسفل".
أما الحكاية الثانية فكانت لشاعر انتهت علاقته بفقدان حبيبته بشكل مجهول بعد ان رفضت امها الزواج منه.. "اعلنوا تحرير المدينة عدت اليها وقد سمعت البعض يتكلم عن نسوة وعن كهف وما يطاردهن.. وعن عجوز تبحث عن ابنتها هرعت اليها.. ووجدتها عمياء.. وحين اقتربت منها صاحت ضاعت حبيبتك.. ضاعت حبيبتك.. بكيت كيف رأتني وهي عمياء".
اما القهوة بفنجانها فقد شكلت معادلا موضوعيا فرض وجوده داخل المشاهد النصية التي تكشف عن حركية تبادلية تحقق التفاعل بين الذات والموضوع عبر فضاء مكاني تضفي عليه الساردة افكارها واحاسيسها وخيالاتها ليكون مكانا فنيا..متفاعلا وحركة الشخصية تفاعلا تخلقه بملكتها الابداعية الخالقة لأبعاد تجربتها السردية من اجل تحقيق اثرها بما يحويه على سلوك الشخصية كونه جزءا مكملا لوجودها بالتصاقها به.. فضلا عن توظيفها لأساليب وتقانات فنية كالتنقيط دلالة الحذف والمسكوت عنه من الكلام والذي يستدعي المتلقي لإملاء بياضاته والكشف عن مغاليقه وهناك اسلوب الاستفهام الباحث عن الجواب لتوسيع مديات النص.. اضافة الى توظيف الغرائبي كي تجر متلقيها لربط النص بالسياق الزمني والظرفي الاجتماعي والسياسي والنفسي.
وبذلك قدمت الساردة نصا يدين الحروب بكل اشكالها لأنها تقتل انسانية الانسان وتكشف عن التمرد على احداث الواقع "احتلال الموصل وما اكتنفها من غرائب الاحداث ومأساة سبايكر.." التي عرفت تحولات لا تبعث الطمأنينة في ذات الانسان المعاصر بلغة دينامية مكتظة بالثنائيات الضدية التي تكشف عن براعة التصوير وسعة الخيال بصور عكست جانبا من الحياة في تتابع مستفز للذاكرة.. نابشا خزينها الذاكراتي.. وهي تستند على عدد من الثيمات والمحاور الدلالية التي تترجم التداخل الانساني والاجتماعي وانصهارهما فنيا في بوتقة موضوعية تدين الحروب بكل اشكالها..

عرض مقالات: