كان كل شيء فيها عبارة عن شفرة، إشارة أو إيماءة فالواقع يقبع خلف المتخيل من الاحداث الظاهرة على السطح والتي تجري تحت مظلة القناع، فلم تكن أسماء الشخصيات والاماكن والأزمنة دون قصديّة الرمز، في رواية سعد محمد رحيم الاخيرة ، التي طبعها الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق بعد رحيله، كذلك لم تكن الاحداث دون قصد الإيماءة من بعيد، وإن اختلط فيها الواقع اليومي للمجتمع العراقي بالمتخيل الادبي، عن وعي سوسيولوجي.
كانت تقاليد المجتمع وأسس التربية في البيت والمدرسة، وسطوة الرجل على جميع مفاصل الحياة مع ازدواجية الشخصية العراقية الحادة مثل مناخ العراق حار جاف صيفاً بارد ممطر شتاءً، من أهم ما أراد الروائي الراحل كشفه: من خلال تناوله القناع الادبي لشخصية محمد رمزي عبد الصمد – علماً أنه ذكر هذا الاسم الكامل للشخصية مرة واحدة فقط - مما يشي بقناع استعمال اسم رمزي فقط في السرد، للرجل العراقي واتصاله ببناء الشخصية الواقعية في البيت والمدرسة منذ الطفولة ليشكل نسقا ثقافيا غير مدون في حياة المجتمع ، يأتي ثماره في الطفل عندما يبلغ فيكون رمزيا، وهو جزء مهم المجتمع، إذ هو الشاب المتعلم في بداية شبابه وقد اكمل الاعدادية ويعمل مساعدا للدكتور ديفيد عالم الاثار البريطاني المختص بالآثار العراقية في أور وبابل وأشور، والاثار الدينية في كركوك ومنها منطقة الحُنينة المكان الذي التقى فيه رمزي بهانا بنت الدكتور ديفيد، واذاقته شكولاتتها بمحض إرادتها وبرغبة من ذاتها انتقاماً من صديقها سام الذي خانها في الهند مع امرأة فرنسية، وفي المكان ذاته الحُنينة تعمل نعيمة في خدمة أسرة الدكتور ديفيد وجالكين زوجه، نعيمة الشخصية الثانوية التي يعاملها زوجها بقسوة وسطوة سادية ليمثل قناع المجتمع الذكوري، حيث يأخذ المال منها ويضاجعها قسراً ويتمنى أن يسمع صرخات ألمها بسببه، لكنها تصبر عليه ولا تحقق ما يريد من ساديته، وهي غير المتعلمة فلا تستطيع تركه لأن المجتمع معه ولا تستطيع قلته لأن الدين يمنعها ولا تسطيع ان تخونه مثل هانا، لأن أخلاقها التي تربت عليها تمنعها فتبقى كما هي في القرية قرب الموقع الاثري في الحُنينة، وهذا الانموذج لشخصية المرأة يقابله انموذج الرجل رمزي الذي تعلق بهانا البريطانية الجنسية التي زارت العراق لمرة واحدة فضاجعته هي تحت ظل اشجار قزمية في صيف لاهب، الهبت كيانه وعقله وقلبه بسبب الحرمان والكبت والمنع الذي يعاني منه هو، فكانت هانا كصرخة الولادة الاولى في الحياة، أو كبصمة مبدع قيظتْ لها الظروف لأن تكون على صخرة صلدة جداً، تركتْ صداها يمتد معه طوال أربعين سنة وهو يعيش لحظات ذاك اللهيب، على الرغم من تزوجه من امرأة وانجابه منها نزار والدكتورة رحاب، وعلى الرغم من مغامراته الجنسية دون علم زوجه وخيانته لها، إلا أن طعم شكولاتة هانا ظّل يراوده بشغف وقد ارتبط اسم هانا بالقطار وهو الاتصال بين عالمين عالم هانا وعالم رمزي، بين مجتمعين وثقافتين مختلفتين جذرياً، وحين التقاها بعد أربعين سنة كان كما هو ذلك الشرقي الذي يحمل ازدواجيته العراقية في لندن كما يكشف المتن علانية عن تحليل لشخصية رمزي على لسان هانا بسبب آرائه التي تفضح ازدواجيته وتناقضه في التعامل مع مواقف تخصه إلا أنه يتصف بصفة واحدة وهي رمزيته للمواطن الذي حرمته التقاليد والأنظمة الحاكمة من هانا ، و من أن يكون ذاته أو يكتشف ذاته من خلالها، تلك الانظمة التي تعمل على تسخير تلك التقاليد والخرافة من أجل استمرارها في التسلط، كما بّين المتن أن رمزي مواطن مثل غيره تشعله شعارات رنانة من اجل فلسطين والعرب في حرب حزيران1967 ومثلها الحروب على مستوى العراق، ثم لا ينفك بعد حين ينشغل بهمومه اليومية دون علم وان علم بشيء فالسوط على ظهره، وأن كلمه دكتور ديفيد عن حقيقية ما يحدث في 1967.
إن ما أراد ايصاله لنا الروائي سعد محمد رحيم، هو أن مجتمعاً أفراده لا يعرفون نفوسهم ولا يعلمون شيئا عن ذواتهم ودواخلهم الانسانية وما فيها من طاقة مهولة لبناء أوطانهم والانتصار الى حقوقهم كبشرٍ، لا يستطيعون الانتصار على الآخر في السلم أو الحرب إذا كان هناك الاخر حقاً كما تصور الانظمة والأيدولوجيات الحاكمة حينها، والافكار التي تصدرها معارضة تلك الانظمة، الفكرة أو الشفرة ببساطة هي أن ليس ثمة أي اهتمام بالفرد من ناحية تحرير الذات من الداخل واطلقها مع احترام كينونتها الآدمية والارتكان الى العلم لا الى الخرافة في جميع القضايا، فأحداث الرواية تدور بين 1966 و2006، بين مكانين وزمانين لا يربط بين رمزي وهانا سوى نزوة هي تعرف ما فعلتْ بدافع من العلم بذاتها ونسيت الموضوع أصلاً، وهو ظلّ متعلقاً بها طوال أربعين سنة لأنه لا يعلم لمَ فعلت هي ذاك ولا يعلم سبب تعلقه بها ولا يعلم أن السبب الحقيقي في داخله هو تركيبة ما نشأ عليه هو وأقرانه، فلو كانت هانا مع أي شخص آخر غير رمزي، ستكون النتيجة واحدة هو التعلق بهانا كما تعلق بها الدكتور محمد رمزي عبد الصمد .
كما أن ثمة قناع تكشفه صيغة اسم المفعول التي ترد كثيرا في المتن من مثل "مزموم: زمَّ ، ومأسور ، قمر مثلوم،..." وغيرها من التعابير التي تدل على قناعة الروائي سعد محمد رحيم بأن هذا المجتمع لم يصل الى هذا الوضع لولا وجود الفاعل لتكون صيغة اسم المفعول في السرد بما يوحي الى فضاء فكري أن الانظمة المتلاحقة هي الفاعل، خصوصاً ما بعد انقلاب 1968 حيث يشير المتن الى العسكرة من خلال وصف سروال كاجلين بالزيتوني، فعندما يكون هذا الوصف في فضاء السرد القريب من عنوان المقطع "الحنينة صيف 1968" يفضي الى حقبة الزيتوني، والتي بسببها غادر الدكتور ديفيد وكاجلين الى لندن ولم يعودا وانقطعت أخبار هانا عن رمزي، بمعنى انقطع الاتصال عن العالم والعلم، وتوالت حينها الحروب والانغلاق والحصار..، حتى وصل رمزي الى لندن في 2005 لغرض العلاج مع أولاده، ليجد هانا هناك في منزل أبيها...، إذا علمنا أن معنى اسم هانا هو الاحسان والمجد فهي احسنت إليه في بلد الخصوبة والحرارة المرتفعة والثروات والاثار والحضارات، ثم احسنت اليه مرة ثانية في بلدها البارد الذي احياه واخصبه العلم، فهو لم يبقَ في العراق للعلاج لأنه لا علم فيه، ولم يذهب الى بلد عربي ليتعالج بل ذهب الى لندن وبرغبة أولاده لا برغبته هو، لأنهم يعلمون أن العلم هناك والطب هناك في لندن، وهو يعلم أن هانا هناك ويعيش من أجل يراها ثانية.

عرض مقالات: