هل يمكن أن نعد الساعة الثانية من فجر يوم 17/1/1991 بداية الانحدار نحو الهاوية؟ أم هي ساعة وتاريخ ارتبطا مع بضعة تواريخ قبلها شكلت الامتداد الحقيقي لبداية دحرجة نحو الاسفل عاشها الوطن؟ كنا نغط في نوم عميق بعد نهار متعب مليء بالترقب والخوف والتحليل لأخبار تبثها كل اذاعات العالم.. مونت كارلو البي بي سي وصوت أمريكا كان لهما السبق في تقديم الاخبار مشفوعة بالأسئلة. " هل سيضربون؟ هل ينفذون تهديدهم؟ " ايقظتني زوجتي والذعر يخشب حركاتها، صوتها مرتجف بفعل الخوف!
ــ لقد فعلوها !
لم اصدق ما قالته، لأني كنت على يقين إنه سيفعلها في الوقت الضائع ويعلن انسحابه من الكويت! فضلا عن شك جعلني متأكدا من أن دول التحالف ستتردد في تنفيذ تهديدها. لكن اصوات مدافع 57 ملم الممتزجة مع صافرات الانذار واصوات الطائرات وهي تخترق سماء بغداد، حطمت كل الشكوك، اصوات مرعبة لقذائف من كل الانواع والاحجام وهي تنفجر فوق رؤوسنا مثلت حينها اكثر الحقائق رسوخا وتأكيدا: ان الحرب قامت.. أجل قامت ولا يمكن ان يوقفها احد! يومها كان التهديد بأصوات عالية يعلو على اصوات الانفجارات التقليدية، وهي تقدم لنا صورا عما سيحدث في الحرب اذا قامت حقا، بيننا وبين دول تريد أن تخرج جيشنا من دولة تم احتلالها، حينها هيمنت على مخيلتنا وهواجسنا، تلك الحرب السرية التي لم نكن نعرف عنها الكثير رغم تجاربنا في حرب الثمان اللعينة "الحرب الكيمياوية.. والجرثومية.. وربما النووية" عبر كل هذه الهواجس استيقظنا معبئين بخوفنا ونحن نحمل انفسنا واولادنا وبناتنا. نازلين الى الطابق السفلي.. حيث الغرفة التي اغلقنا كل منافذها "خوفا من وصول التسرب الاشعاعي" الغرفة التي خزنا فيها الماء بقدور كبيرة. حالما وصلنا الى الغرفة، دوى انفجار رهيب هز البيت...ارتجت النوافذ وسمعنا اصوات تكسر زجاج... انتبهنا بعد حين الى ان ابنتنا الصغيرة "نور" مازالت نائمة في غرفتنا العلوية، اذ نسيناها في فراشها وهرعنا الى الغرفة السفلية التي اكتظت باخوتي . واعتبرت ان صعودي الى الطابق العلوي وجلب "نور" بطولة..
تسلقت السلالم الاسمنتية بخفة قط وجلبتها.. كانت لاتزال نائمة... نائمة بجمال وألفة وطمأنينة... لاعلاقة لها بما كان يدور حولها وحولنا من تساقط للصواريخ... او اصوات الطائرات وهي تشق السماء مخترقة بغداد وكل مدن الوطن.... بقينا نلتقط اذاعات تبتعد او تقترب.... واخرها... كانت كلمته المختصرة "لقد غدر الغادرون"... صوته كان يصل الينا بشكل لايشبه الصوت الذي اعتدنا سماعه .. كان صوتاً مكتوماً، قال أبي: يبدو ان رئيسنا يحدثنا من مكان بعيد ، لكنه بالتأكيد تحت الارض!

عرض مقالات: