هل نعيش حقاً عصر التسيد السردي؟ تساءلت مع نفسي وأنا أواجه سؤالاً طرحه أحد الأصدقاء، ومما جاء فيه:
من الملاحظ تحول المزاج العام في الشكل الإبداعي في العراق من سيادة الشعر في عقود سابقة الى هيمنة السرد وتفوقه، كما نلاحظ صعود روائيين عراقيين كثر نحو التقدير العالمي والجوائز المرموقة، الى أي مناخ تعزو هذا التسيّد السردي في السنوات الأخيرة؟
أجبت السيد السائل دون تردد. الروايةُ لم تزح الشعر، ولا أظنها انتعشت لتحدد مهمتها بتلك الازاحة المزعومة. الأمر أخطر من ذلك، وقد يبدو طريفا أحيانا، خصوصا حين نتجه الى نظرة السوق للأجناس الأدبية اللاهثة خلف الربح والتجارة. لقد شيعت قبل عقود حكايات وبدع كثيرة من هذا القبيل، زمن الرواية قلل من أهمية القصة، وموت الشعر، وموت الكتاب الورقي، وعهد الرواية، ومن الطريف أن تشاع، قبل هذا في اوربا – أم الرواية - حكاية عصر نهاية الرواية نفسها!
في الفن قيل كلام مثل هذا أيضا: عصر السينما وعصر المسلسلات. وفي التكنلوجيا والاعلام شيع عصر النت والفضائيات وموت الصحف أيضا.
أظن، من المحال، أن يضمر المؤثر الشعري، ومن المحال أن نركنه في الذاكرة. شخصيا أتوضأ بالشعر قبل الشروع بكتابة الرواية، وأفطر بقصة قصيرة قبل التوغل في السرد. الشعر قدرة ابداعية تداعب الاحساس والمخيلة وتخلق مساحة للخيال وصنع الجمال. والقصة القصيرة وجبة سردية خفيفة ومؤثرة. لا أظن أي ناقد أو روائي من المتحمسين لمقولة عصر الرواية أن ينكر ذلك. نعم هناك تبدلات في الحياة السياسية والاجتماعية وقد تنعكس بشكل أو بآخر على الفضاء الثقافي. بعض الشعراء وبعض مرتدي جبة الشعر ربما أساء الى الشعر في حقبة الثمانينيات على سبيل المثال، وحاليا صنع "الفيس" آلاف "الشعراء الفيسبوكين"، لكن هذا لا يقلل من قيمة الشعر بقدر ما يحاول الاساءة اليه. هل ماتت السينما عالميا بوجود الفضائيات واليوتيوب؟ هل مات الكتاب الورقي في ظل انتشار الكتاب الالكتروني؟ لا، ربما المناخ العام ما عاد يتقبل التطبيل للحاكم، أو مزاجية الشعر والتوغل في خصوصية كاتبه ووقائعه الغرامية فطلَّق الشعر والسرد التعبوي والشخصي - المزاجي معا. ألم تكن هناك أكوام من الروايات التعبوية؟ الشعر عربيا يحضى بالسمو تاريخيا، وهو قديم جدا مقارنة بفن الرواية الحديث. وهذا الادعاء هو نوع من الإقصاء المفتعل لا غير. ها نحن نعود الى مزاج وحسابات السوق. في أعوام الحصار كان الكتاب الديني والتاريخي هما الأكثر مبيعا والأكثر مطلوبية. الآن ثمة ولوج شبه جماعي الى الرواية من قبل عدد من الشعراء والقصاصين وحتى بعض النقاد. هذا شأن آخر لا يعنيننا الخوض فيه – بعضهم أبدع في كتابة رواية أو كتاب من جنس يجاورها. لكن الذائقة ما عادت تتقبل شعر الهجاء والمديح والفخر والغراميات والنفخ التعبوي. هذا كله بات مضحكا في تيارات الحداثة. سلم الحداثة يتطور سريعا، وعلى الشعر مثلما على الرواية والفيلم السينمائي والأغنية أن تتطور وتعيد ترتيب أوراقها.
دور النشر العراقية والعربية تفضل طبع ونشر الروايات، هي تلهث نحو سقف مبيعاتها وهذا شأنها، وقد تعلّل ذلك بتغيّر الذائقة الجمعية التي بدأت تتجه الى الاطلاع على المكمم من حقب زمنية مجهولة نجحت بعض الروايات في سردها وفضحها وتصويرها ببراعة. هنا تكمن حكاية انتعاش الرواية ورواجها، بعد أن حبس الشعر لعقود في التمجيد والتطبيل للحاكم بمشاركة الكثير من الروايات التعبوية الثمانينية أيضا. هذا كل ما في الأمر.