لا خلاف أن ملحمة جلجامش هي الصنيع البشري الفني الأول الذي نتلمس فيه حضورية العنصر الألوهي في المخيال الرافديني. هذا المخيال الذي وجد في الاسطورة كل ما يبتغيه من التفسيرات المقنعة التي بها يتمكن من فهم العالم المحيط. والأسطورة ـ بوصفهما من البنى الدنيا للتفكير ـ تعطي الانسان اعتقادا ميتافيزيقيا واهما او موهوما في أنه يستطيع أن يفهم العالم وأنه يفهمه فعلا، ومن هنا غدا التأليه والتدين أو العقيدة الدينية هي البنية الفوقية العليا التي تفترض وجود عالم خفي. اذن لولا التفكير في الروح لما اهتم المخيال الرافديني بالوجود. ولان الانسان الرافديني انشغل بالأفكار فليس ذلك بحث عن تفوق أو نتاج ثراء وبطر أو موضع تباه وتنافس بل هو انشغال صميمي نشأ من هاجس لا شعوري اعترى هذا الانسان وقض عليه مضجعه فطفق يرى ويفكر فاتجه اجتماعيا إلى الإيمان باتجاهين اتجاه الأمومة واتجاه الأبوة، الاتجاه الأول هو الأسبق وهو الأصل الذي منه صار المجتمع الرافديني في بواكيره مجتمعا أموميا وليس أبويا. وإذا كان الناظر في الأساطير والحكايات العراقية سيجد نتاجا فكريا أساسه آلهة مذكرة ومؤنثة تتصارع وقد تتعاون، فما ذلك إلا لأنها تمثل مرحلة كتابية لاحقة لمرحلة شفاهية سبقتها كانت فيها الآلهة مؤنثة كانعكاس لما كانت الانثى آنذاك تحتله في المجتمع من موقع متصدر في الحياتين الدنيوية والدينية فكانت هي الكاهنة والآلهة والسيدة والرئيسة والحاكمة والمعلمة.
وفي ملحمة كلكامش أفكار تم تدوينها وأخرى لم تدوّن ولاسيما فكرة أحادية الالوهة وانثويتها التي ظلت تتداول شفاهيا وتجاهلتها الملحمة كتابيا ومن ثم اعتراها الذواء حتى نسيت فلم يؤرشفها لنا التاريخ القديم. وقد حفظ التاريخ القديم لنا الملحمة كأول نتاج إبداعي أنتجته المخيلة البشرية إلا إنه لم يحفظ لنا ما كان قبل الملحمة او لم يفلح في توثيقه.
ولعل من حسن الحظ أن ما أبدعه الانسان البدائي من أفكار آمن بها روحيا وجسديا ومثّلها أدبيا لن يتلاشى بل هو يترسب ويتراكم في صيغ جينالوجية لا شعورية فسّرتها نظرية كارل يونغ في اللاشعور الجمعي، مؤكدة أن الأفكار المنتجة في عصور سالفة مما صنعه الأجداد في ماضيهم الغابر سيظل يعيش معنا لأن الفكر ينتقل ويتوارث ثقافيا من جيل إلى جيل كونه مخزونا في ذاكرتنا الجمعية في مستودعات ثقافية ليس بمقدورنا أن نجتثها أو نتنكر لها لأنها تعمل فينا بطريقة فاعلة لا شعورية.
ووفقا لهذا المنظور النفسي سنكون مطمئنين إلى أن ما كان متداولا في بلاد الرافدين من أفكار في عصر ما قبل الكتابة المسمارية سيظل متناقلا جينالوجيا عبر الزمن وأن ما لم يوثقه التاريخ المدون سيكون متوارثا ثقافيا عبر الأجيال. ولعل هذا المنظور هو الذي يفسر لنا كيف أن الشعر ظل جزءا من إبداعاتنا على مر العصور لا يمكننا أن نفر منه ولا يمكنه أن يفارقنا فهو معجون في ذواتنا كموروث انتقل إلينا طواعيا ولا مناص لنا من الامتثال له لا شعوريا إبداعا أو إعجابا.
ومن وجهة نظر انثربولوجية فان أشكال اعتقاداتنا الشعبية والفلكلورية وأعرافنا القولية والفعلية ما هي إلا من صنيع ذلك الفكر الاعتقادي الخرافي والأسطوري المترسب في أذهاننا على شكل ميراث انتقل إلينا من حضارة كانت فيها الآلهة والكائنات الخارقة تسيطر على البشر.
ولما كان أثر الفكر الديني لا ينكر في حياة الانسان الرافديني وأن لهذا الفكر تمثيلات أدبية نثرية وشعرية فإن السؤال هنا سيتحدد في من ذا الذي كان يقوم بمثلنة الأفكار أدبيا أهو رجل أم امرأة؟ أو بعبارة أخرى هل كان التمثيل الأدبي للفكر أحاديا أم ازدواجيا؟ أ يكون من الصحيح القول إن صانع الأفكار ومؤجج المخيلة هو امرأة أم أن الاحتمال الأقوى أو الأقرب إلى الواقع هو أن الصانع أو المبتكر لهذا التمثيل الديني رجل؟
وبدءا فإن ما هو غير مختلف عليه القول إن شعب بين النهرين هو أول من اهتدى إلى الكتابة ولكن من أرشده إليها؟ أيكون للأفكار الميتافيزيقية أثر في إنعاش الذهن الشفاهي فحمَلَه على الكتابة على رقم من طين؟
إن نظرة متفحصة في بنائية الحكايات الخرافية والأسطورية ستوضح أن الفواعل السردية أو المسرودات كانت في الأغلب أنثوية وهذا يؤكد رسوخ الفاعلية النسوية في ذلك الفكر. وإذا كان الأمر كذلك فإن من غير المستبعد أن لا تنحصر غلبة النساء في كونهن فواعل سردية حسب وإنما سيفترض المنطق ان يكون لهن أيضا غلبة أخرى واقعية تتمثل في جعلهن ساردات على المستوى الحياتي كونهن الهاديات والمرشدات وربما المؤلفات والمحرضات على تدوين الحكايات والأساطير.
وإذا كانت المرأة هي أول من صنعت وألهمت؛ فإن من الطبيعي أن يكون لها القدح المعلى في شؤون الحياة صغيرها وكبيرها وأن لا تكون مجرد شخصية في المخيال الادبي وإنما هي منتجة لذلك المخيال ومؤلفته.
ولو افترضنا أن المرأة الرافدينية كانت في أداء دورها الامومي تمارس فعل الإهداء والتعليم لا الإغراء والتأثيم وأن المجتمع لم يكن ينظر اليها بوصفها غاوية أو مغرية فإذن ما المبررات التي تسوغ هذا الافتراض وتمنطقه؟
ولعل في مقدمة المبررات التي ندلل بها على هذه الفرضية ونسوغ حتمية أو إمكانية حضور الانثى فاعلة مركزية ما يأتي :
أولا: أن المرأة احتلت في مراحل ما قبل الكتابة مركزية هائلة جعلت منها العنصر الذي يسيّر الآخر ويوجهه، فكانت هي المعلمة والحكيمة والقائدة التي لا غنى عنها ولو أخذنا الحكايات التي دوّنت خارج إطار ملحمة جلجامش لوجدنا العنصر المؤنث ذا مكانة أعلى مما صورته الحكايات المكتوبة فيما بعد فقد حورت دور المؤنث وأدمجته في الملحمة في إطار منظور يخضع لفكر ذكوري منقلب على هذا المؤنث الذي هو الأصل ـ وهو ما سنفصل القول فيه لاحقا ـ وهكذا أوهَمَنا التاريخ القديم بتعميماته واطلاقيته أن صانع الملحمة ومدونها مذكر مجهول لا غير.
ثانيا: أن الحكّاء الرافديني هو جزء من مجتمع ومن الطبيعي أن يكون فكره مرآة لهذا المجتمع ليجعل للمرئي الواقعي عالما افتراضيا متخيلا وغير مرئي ولما كان الواقع يكشف عن هيمنة مؤنثة على الحياة فطبيعي أن يؤدي المخيال الفني للحكاء الدور عينه وهكذا كانت اغلب الايقونات النحتية والتجسيمية التي اكتشفت في وادي الرافدين ترمز إلى فواعل مؤنثة ذات هيمنة.
ثالثا: ما افترضه الباحث الألماني ديرلاين من أن دوافع صنع الحكايات الخرافية كانت أنثوية تتمثل في الخوف من الحيض وفض البكارة والولادة ليكون صانع الحكايات مؤنثا إذ يقول:" ليس من الممكن أن تتشكل هذه الأشياء في الحكاية الخرافية إلا حينما يكون القاص امرأة لان مثل هذه التجربة لا يمكن ان تتحقق إطلاقا لدى الرجل لكن الثابت أن القصاصين في الشعوب البدائية بالذات كانوا غالبا من الرجال" واستدراكه الأخير مردود لأنه تبعة من تبعات ما أشاعه النقد الذكوري وحاول الإيهام بصدقه كي نسلم له.
رابعا: إن ما تقدمه ملحمة جلجامش بوصفها تمثل المرحلة التخييلية الكتابية اللاحقة لمرحلة التخييل الشفاهي البكر إنما يدلل على حضورية الانثى كإلهة مشاركة فاعلة تناصف المذكر وقد تهيمن على حضورية العنصرين المذكر وغير العاقل وإن كان في اتجاه سلبي واستحواذي فبدت الآلهة المؤنثة تتمحور أفعالها وتحركاتها حول الشر لترسم مصائر الحيوات آلهة وغير آلهة بشكل لا يمكن إنكاره أو تجاهله.
خامسا: إن الطبيعة الفكرية وليست الصياغة الشعرية التي تقدمها الملحمة تدلل على أن الآلهة المؤنثة قد مرت بمراحل حتى غدت في هذه الصورة التمثيلية وبقولبة شكلية لغوية. وعلى الرغم من أن تلك القوالب انحازت لصالح المذكر إلا أنها لم تستطع أن تلغي ذلك الامتداد الفكري للمخيلة النسائية في مرحلتها الشفاهية فقدمته في شكل شعري هو في حقيقته مجموعة حكايات خرافية وأسطورية تمت شخصنتها بإلوهية أمومية ضمن عالم وهمي ميتافيزيقي فيه النساء فاعلات ومسيطرات جنبا إلى جنب الفواعل الرجالية الإلهية والبشرية.
ولا خلاف أن المادة الفكرية التي تمثلت في الولادة والإخصاب والخلق والأمومة كانت قد تغلغلت في كل مقطع من مقاطع ملحمة جلجامش ومفاصلها، لتشهد على عصر يوتوبي سادت فيه الأمومة كفضاء فردوس أرضي وقاعدة لفكر إبداعي على الصعيدين الحياتي وما بعد الحياتي.

عرض مقالات: