على امتداد خمسين دقيقة يحاول الفيلم الوثائقي "المدرسة الأم" ان يستحضر عمر "مدرسة المحمودية الاولى الابتدائية"، الذي قارب المائة عام. أنها تلامس نسمات يوبيلها الذهبي لذا آثر الفيلم ان يمسح الغبار عن عصرها الذهبي بشهادة معلميها الذي يمتد لأكثر من عشرين عاماً.. الخمسينيات والستينيات وبعض سنوات السبعينيات التي شهدت بداية النزول عن فرس الحلم والسير في اتجاه مختلف حيث هيمنة الفكر المتخلف المتسلط الواحد.. عسكرة المدارس ثم الهجوم المفترس على كل ما هو اصيل وجميل في داخلنا وخارجنا، من سماء الوطن حتى حاضنة النفط، فتبدد رحيق البلاد في جهات العالم الاربع. الفيلم يحاول ان يروي ذلك التألق الراحل بلسان معلمي تلك المدرسة في ذلك الزمن لنطل معاً على رايات المحرك الاول لنهضتها... للسديم الذي اينع رجالاً لوّنوا صباحاتها الشاخصة نحو النجوم البعيدة, أولئك الرجال المربين الذين انحنى الزمان امام حدّة نظراتهم وهم يرون المستقبل ينبت بين اصابع اولاد الطين اسوةً بغيرهم.. ابصروا الآتي بركضة فلاحٍ تَجلدُ وجهه الريح وتقلبات المواسم. منذ مائة عام كان قضاء المحمودية مثل فلاحة لا تعرف ابعد من ارضها ولا ترى اوسع مما تسمح به الشمس ولكن في احدى صباحاتها اشتعل ضوء اكبر من شمعات كتاتيبها وملاليها ليعبر من كوّة "قل اعوذ" الى العالم الفسيح بخيلٍ مسلحةٍ بالعلم لتحارب الشر القادم ليس من الحسد فقط، بل من الجهل والخرافة واشباح الظلام ايضاً. ومثل "انكيدو" خرجت من سجن البرية لتتلمس ناقوس الحضارة في معركة شرسة... هل هناك من شهداء.. نعم.. وقد نجهل بعضهم، لكن ارض العراق وفي مناطق أخرى شهدت اقطاعيين هدّموا مدارس على طلابها، وكانوا يرون في المعلم عصا عزرائيل... كم من متعصب اعمى هجم بسنابك خيله واقتلع باب مدرسة كانت تصدّ سهام الريح والبرد، ورمى كتب اطفالها على جثث اخشاب محترقة او بعثرها فوق مويجات النهرين الحزينة.
يأخذنا الفيلم برفق الى الاماكن الاولى التي شهدت مخاض المدرسة الاول حتى مستقرها الاخير الذي بنيت فيه عام 1960 باكورة انجازات ثورة 1958، وهي قابعة الان بجوار كراج الانطلاق وامامها حديقة صغيرة رسمها جور الزمن والايام الرديئة. لكنها المدرسة ظلت مثل عين الجبل ترشح ان فاض الشتاء بالبراعم. يدخل الفيلم ساحتها ثم صفوفها مدفوعاً بعبير روادها الاوائل طلبةً ومعلمين.. فاتحين كنوز ذكرياتهم لتمطر علينا ياسميناً. لله ما هذه الوجوه!! لقد عبرَها منجل الزمن لكنها الان – في لحظة التجلي – تسحب الزمن من ياقته الكريهة وتشرق بنهار الشباب والامنيات السعيدة لتتألق بلؤلؤ المجد التليد. معلم قديم يمسك ناياً فتتقافز الحملان لاهيةً من فتحات الناي، يتبعها الراعي وهو يدمدم بأغنية تهزّ عصاه طرباً. يزهر السنبل بالرقص، والماء ينشج عند الشواطئ. تصغي العصافير لتتعلم فنّ البوح والشموخ.. يرفعنا ذلك النغم المترقرق عالياً لنتنسم بهاء الحرية الاشمّ. ثم يختم عزفه البهي نادباً الزمن بموسيقى "احبابنا ياعين ما هم معانا" للمطرب الراحل فريد الاطرش. طبعاً.. لم يبقَ من نار احبابنا الراحلين سوى عناقيد ذكراهم، وغصّة الفرح الاخير. هذا المعلم هو استاذ الموسيقى والنشيد عام 66-1967 رشيد الزبيدي. "والذي كان مريضاً وابى الاّ ان يأتي رغم مرضه متجاوزاً اصرار عائلته على البقاء في البيت، ونتج عن مجيئه وعودته الى الحلة إن ازداد مرضه ونُقل على اثرها الى المستشفى"!
الاستاذ علي رفيق المقيم حالياً في لندن خريج المسرح اتى الى المحمودية عام 1966، يدّرس مادة الرسم بدل المسرح حيث لا يوجد درس اسمه المسرح في مدارسنا. في الدرس الاول كتب على السبورة بطّة، نخلة، كوخ، نهر، وتفاحة، وقال لطلابه.. أرسموا لكن من يرسم بطة ويكتب عليها بطة.. او يرسم تفاحة ويكتب عليها تفاحة سيكون راسباً في مادة الرسم! ثارت حفيظة الطلاب كيف نرسم في مادة مثل الرسم والتي كانت تعني بنظرهم ونظر بعض الاساتذة هي درس استراحة. لقد هزّ علي رفيق شجرة السائد والمتعارف من جذورهما. رمى حجراً في بركة العقل اليابس ليوجعه حتى يبصر ابعد من قشرة الاشياء ويخلق روابط جديدة بين اشياء قد تبدو غير متشابهة او مؤتلفة. مرّة أخذ طلبته من "الرسامين" ومضى بهم الى سوق المحمودية ونثرهم مثل الطيور طالباً منهم ان يرسموا الان ما يثير انتباههم من حركةٍ او وقفة او غيرها. رسم "الرسامون" نبض الشارع برجاله من قصابين وبزازين ورواد مقهى وغيرهم.. رأوا الحياة وهي تجري في عروق الرجال.. لمسوها بعد ان كان يُطلب منهم رسم اي شيء جامد معتمدين على خيالهم الصغير او ينسخوا عن صور اخرى. لقد اوقد فيهم هذا المعلم جذوة الفن الحقيقي. لذا حين عادوا واتموا رسوماتهم طلب المعلم من مديره المتفهّم ان يقيم معرضاً فنياً لهذه اللوحات. ما الذي قالته هذه اللوحات لتكون جديرة بمعرض؟ هل اشعلت هذي الانامل ناراً سالت من اصابعها الى اصباغها فبدى العالم احلى؟ وقبلها اين جلس التلاميذ وهم يحملون كراساتهم.. هل رسموا وهم واقفون؟ هل دخل احدهم محل القصاب واتّكأ على جدارٍ ام على اضلاع خروف.. لم يكن لديهم مساند فهل سمح لهم صاحب المقهى ان يستخدموا اذرع كراسيه ام كنباته؟ هل جلسوا على راحة الرصيف ام حصيرة الشارع ؟ كيف نظر الناس اليهم في ذلك السوق ؟ وهل ستختلف النظرة لو مضى صبية آخرون اليوم الى نفس المكان وحاولوا ان يرسموا ما رسم اباؤهم في ذلك الوقت !؟ اسئلة تتداعى وانا ارى صورة قديمة للمدير وهو يقص شريط افتتاح معرض الرسم ذاك، واتذكر مدرستي الابتدائية.
كان هنالك فرقة مسرحية من طلبةٍ واساتذةٍ يقدمون مسرحيات بعضها محلي واخر اجنبي "شكسبير". مسرحيات باللغة الفصحى او العامية.. واصدروا مجلة اسموها "صدى المعرفة".
هنالك آلات موسيقية يحتضنها عازفون صغار مع اساتذتهم. الاستاذ محمد مجيد يدرّس اللغة العربية لكن شغفه وحبه لمدرسته وتلاميذه دفعه الى تزيين جدران المدرسة بالخرائط واللوحات الفنية. الراحلون المعلم وجدي العاني كان يؤلف للمسرح ويمثل، المعلم جلال العزاوي عازف للكمان، معلم الرسم والاعمال اليدوية عدنان المشهداني والطالب عامر جهاد "الموسيقى والنشيد" وفيما بعد اصبح ممثلاً في الفرقة القومية للتمثيل، اضافة الى المعلم وعازف الناي رشيد الزبيدي الذي سبق ذكره واخرون. وكان هنالك المعلم الراحل حكمت عويد استاذ اللغة الانكليزية الذي استخدم بدلته الجديدة وسيلة ايضاح عندما رأى تلامذته لم يدركوا الشرح "النظري" بين اليد والذراع فآثر ان يوضحها اكثر بأن حدد مكان الذراع راسما بالطبشور الابيض على بدلته غير عابئ بها، فقط ليوصل المراد الى طلابه كما اوضح الاستاذ شاكر محمود عكيب. وهنالك طلبة واساتذة تعلقوا بالرياضة وساهموا بأنشطة كثيرة حاملين اسم المحمودية عالياً... ناهيك عن معلمين آخرين لم يقلّوا عن المذكورين اعلاه في تفانيهم وعطاءاتهم في دروس اخرى، وتخرجت على ايديهم اجيالاً تبوأت مراكز مرموقة في جميع الاختصاصات ويبدو لي ان الراحل مدير المدرسة مهدي الجميلي والمعلمون الذين كانوا معه هم واسطة العقد وقمة عصر المدرسة الذهبي في النصف الثاني من الستينيات.
احضر الفيلم لوحتين متناقضتين مؤثرتين بعمق وهي تشرح ضمناً نصف القرن التالي من عمر المدرسة عندما ارانا الطلبة في درس الزراعة البائد وهم يجلسون مع مزروعاتهم.. يحفرون صدر الارض فيزهر الفستق المخضرّ الذي يتراقص على جدائل نباتاتها. انّ الزراعة تسمح لعقل الطالب الصغير ان يتمعن بضحكات الالوان يهفو لغنجها تعلمه الركض في مطاردة فراشات الفضاءات البعيدة فيقوى بصره وخياله.
يدفعنا الفيلم بلمسة دافئة كي نعاين ما حولنا بشكل اعمق ونحن نحمل شعلة المقارنة.. لماذا كان ما يحيطنا اوسع، والسماء تبدو قريبة منّا؟ بينما الان نبصر الارض عارية وحيطان المباني والبيوت تطوقنا كأسوار السجون، ولا نرى السماء الاّ بطيّ رقابنا الى الخلف.. فيترنح سؤال.. من يضمن ان اطفالنا حين يكبرون لا يُصابون بالحول من صغر حجم البيوت الان وكثرة الجدران التي تقترب منا يوماً بعد يوم؟
كنّا نحمل كتبنا المدرسية القليلة، واغلب الاحيان دون حقائب "كانت في ذلك الوقت الحقيبة ترفاً" ونتقافز في الدروب مثل العصافير.. امّا الان فنرى اطفالنا يرزحون تحت ثقل حقائبهم الضخمة وكأنهم حمالون.. لا لون للفرح على وجوههم او يسرح في مراعي عيونهم. لماذا الحقائب ثقيلة رغم معرفتنا ان قيمتها المعرفية تتضاءل سنة بعد اخرى.. والمستقبل يبدو اعرجاً وبلا هوية؟ لماذا تزحف المدارس الخاصة كالقضاء السريع والمدارس الحكومية مشغولة بما لا يعنيها.. واهل الطلبة الفقراء ينتظرون من الله معجزة كي تعيد التوازن الى الذي هشّم أتباع ابليس قبّان التوازن فيه!؟ كان التخرّج فرحةً عظمى.. يسير المتخرج وكأنه يطفو او تحت اقدامه "سبرنكات" ترفعه قدر ما تشاء او يشاء ليرى حديقة احلامه قد اينعت وحان وقت القطاف. لا عسر في الحصول على وظيفةٍ.. لا مناجل قلقٍ تحفر في خاصرته للحصول على زوجةٍ وتأسيس بيت صغير.. امّا الان فكل شيء سديمٌ وقبض ريح.. الخريجون يتكاثرون من الجامعات الحكومية والخاصة بأعداد كبيرة وليس هناك صندوق امل يتكدّس الخريجون كصناديق الخردة في البيوت او الطرقات او المقاهي. الدولة تسير مثل مريض منفوخة رجليه بالماء. موظفون كثيرون يجلسون على قصبتها الهوائية ولا عمل لهم سوى شفط هواء تنفسها، وولاة جهلة "دينهم دنانيرهم وقبلتهم نساؤهم".. الحرام ديدنهم.. والرشوة تاج رؤوسهم وعزتهم.
اشير الان الى الجهد المرموق الذي بذله الثلاثي ضياء مهدي وحيدر غضبان في انجاز فكرة الفيلم واعداد السيناريو الخاص به ومساعدتهما في الاخراج بقيادة المخرج الاستاذ قاسم المعموري.
بقيت ملاحظتان.. الاولى حول سنة تأسيس المدرسة.. لقد اظهرت لنا واجهة المدرسة الحالية بانها قد تأسست عام 1923، بينما يشير الفيلم الى ان تأريخ تأسيسها يعود الى عام 1921، ولكسر عقبة هذا السؤال ارانا الاستاذ ضياء مهدي وثيقة لطالب مؤرخة عام 1922 وقد ظهرت في الفيلم ايضاً.
الملاحظة الاخرى.. في معرض تكريم المعلمين القدامى الذين توافدوا على هذه المدرسة عبر تاريخها المديد طُلب من احد هؤلاء ان يقدّم درساً للطلبة الجدد. بشوقٍ جارف حضر ذلك الاستاذ الى الصفّ وفتح حقيبته مستخرجاً منها طبشوراً ابيض ثم التفت الى الوراء وسار منتشياً الى السبورة.. لقد صعق في مكانه.. تفاجأ ان السبورة التي كان يعرفها مثل زنجيّةٍ.. فما بال هذه السبورة كالحليب! فقال اين اكتب اذن!!؟ سؤال وجيه كرعدة عاشقٍ. كان طبشوره القديم مثل مسحاةٍ تحفر في قلب السبورة – الارض كي يخرج الضياء. كان الابيض مطر الطبشور وشمسه.. اما الان فقد سرقوا منه قلب الطبشور الزلاليّ. ما الذي مسّ شغاف قلبه في هذه اللحظة الهوجاء..
ان فيلم "المدرسة الام" صفعة على رقبة الحاضر، دعوة اجبارية لننظر ثانية في خلايا ارواحنا وقد توقفت عن استخراج العسل وتبلدت بالمطر الطيني للأنا وتمزّق الرايات، وابدال زرقاء اليمامة بسودائها.