واحدة من الهموم الجميلة التي شغلت بالي منذ زمن طويل، تتمثل بكيفية الوصول الى مدينة القياصرة ولاحقا بلد العمال والفلاحين وعاصمتهم موسكو، قلعة الاشتراكية الأولى التي أرسى قواعد بنائها الماركسي فلاديمير ايلتش لينين.
هي حلمي القديم، وقد قرأت عنها في مطلع صباي وتعرفت على اهم رموزها الموزعة بين عشرات القصص والروايات المثيرة والعجيبة، جسدتها اعمال أشهر الكتاب الروس ورغم مرور أكثر من قرن على اصدارها، مازالت تلك المطبوعات خالدة في ذاكرة البشرية جمعاء فمن منا لم يقرأ الحرب والسلام والابله والمفتش العام ودكتور زيفاكو والام والدون الهادئ واشعار بوشكين والشاعر القروي يسنين وشاعر الثورة البلشفية مايكوفسكي. من منا لم يقف مذهولا امام هذا الكم الهائل من الاغراء، نساءهم الجميلات، غاباتهم، عربات الخيول، الثلج الأبيض، الانهار الهادئة والسريعة الجريان ومن بعد كل هذا وذاك نضال الجيش الأحمر والبطولات التي سطرها ضد النازية ابان الحرب الكونية الثانية، التي أرخ كبار كتابها أعظم الملاحم عبر سلسلة مقاتلون في سبيل وطنهم السوفيتي، إنجازاتها العلمية العظيمة في مختلف مناحي الحياة في الطب والهندسة والعلوم فكان مندليف الذي اكتشف الجدول الدوري وبافلوف وكلبه الشهير في علم النفس وغاغارين وهو يسبح بالفضاء مع فالنتين ترشكوفا، وكاربوف، وياشين، هل يمكن أن نحصي عدد جوائز نوبل التي نالها العلماء السوفيات؟
يا.. للعظمة..

من كان يطلع الدنيا على تلك الأسماء وهي تترجم بابداع تلك الروائع المعرفية الى اللغة العربية والاعجمية لكل دول العالم الطامحة بغد مشرق.
لقد كان لحركة الترجمة الجبارة التي تصدر مقامها المثقف العراقي والدور الكبير الذي ساهم فيه من اجل التعريف بالاشتراكية ونهجها وادبها وهي تخطو نحو بناء مجتمع تسود فيه قيم العدالة والتسامح والحرية الخالي من الاستغلال.
كانت حركة الترجمة جبارة تميزت بها كل من دار التقدم ودار مير ودور نشر عربية كالطليعة والفارابي جميعها من دون استثناء، اخذت الدور الريادي في التعريف بهذه التجربة الإنسانية الرائدة، مقدمة زادا معرفياً رصيناً لأهم الأعمال الأدبية والنظرية للفكر الشيوعي والتي لا حصر لها وباقلام كتاب عراقيين بارزين أمثال غائب طعمة فرحان وسامي الدروبي وخيري الضامن وفوزي السعد وعبد الله حبه.
أيضا كم كنت أتمنى ذات يوم ان ادرس في جامعة باتريس لومومبا المعروفة باسم جامعة الصداقة بين الشعوب وهي تحتضن شباب العالم من كل القارات دون النظر الى لونهم او جنسهم او عرقهم ليتخرج منها الطبيب والمهندس والباحث والإداري ...
الأمنية الثالثة ....

هي الوقوف عند ضريح لينين في الساحة الحمراء التي شهدت انتصار الثورة البلشفية. بين ليلة وضحاها تحققت تلك الأماني التي كانت يوما بعيدة المنال.
ها انا الآن احلق في سماء مدينة الثلج لتطأ قدمي اول مرة عاصمة البلاشفة.
بعد أربع ساعات ونصف حطت طائرة البوينغ العراقية 737 في مطار المدينة المترامية الأطراف الشديدة الخضرة ذات البرودة العذبة والهواء النقي في يوم تموزي، وهي تتباهى ببنية تحتية لا مثيل لها رسم ملامحها الانسان السوفيتي.
كنت في سباق مع الزمن أرغب بطرق الذاكرة بقوة لكل ركن رسمته في مخيلتي عن هذا البلد، أولها رغبة جامحة للقاء أبرز المترجمين الذي أغنوا المكتبة العربية والعراقية بالأدب الروسي هو الأستاذ الجليل عبد الله حبه، رفعت سماعة الهاتف على الرفيق حجاز بهية عضو اللجنة المركزية لتحقيق رغبتي في تحقيق حوار معه وقد تم فعلا.
كانت فرحتي لا توصف وانا استقبل من قبل الرفيق ابو انيس في منظمة الحزب في روسيا الذي أغدق عليّ كرماً جماً والاجمل حضور الرفيق عبد الله حبه هذا الرجل الذي جاوز عمره السبعين في الموعد المحدد.
كنت قبل ليلة قد خططت للمحاورة ورسمت صورة للبداية والعقدة والنهاية وما ان التقينا ضاعت كل الأسئلة، ركنت جانبا الورق والقلم وتركت الجهاز الخلوي ليسجل حديثا مفتوحا ركزت فيه على كلمة الاختلاف!!
اود اولا التعريف بسيرة عبد الله حبه كما وردت في موقع الحوار المتمدن...

المترجم والكاتب عبد الله حبه

((اسم معروف في دنيا الادب الروسي ومسيرته في عالمنا العربي.
إذ ترتبط بهذا الاسم ترجمات أدب روسي متميزة والشيء الآخر دراساته النقدية التحليلية حول الادباء الروس وسماتهم وخصائصهم.
• عبد الله حبه من مواليد بغداد خريج معهد الفنون الجميلة سافر إلى موسكو لإكمال دراسته في معهد الفن المسرحي (غيتس) الشهير وتخرج منه عام 1960.
• انجز ترجمة أكثر من أربعين كتابا منها أقاصيص لبونين ومأساة غوركي أيقونة البروليتاريا ولاستروفسكي مسرحيات مختارة عام 1989م.
• ومازال ليومنا هذا يرفدنا بكل جديد.

الحوار

 بودي الحديث أولا عن الاختلاف طالما نحن الآن في موسكو عاصمة الاتحاد السوفيتي السابق، كيف يجري التعامل مع المختلف؟

 الاختلاف ظاهرة صحية اذ تعتمدها جميع الدول التي تسعى للتقدم وكسب الآخر وهذا ما يحدث في النظم الحديثة، الاذكياء يضعون أمامهم أولويات استراتيجيا وتكتيكا لتحقيق الأهداف على مستوى الأفراد والجماعات لخلق الجديد وهناك نص لكروبسكايا زوجة لينين ان الرأي السديد ينبع من مجمل آراء أصحاب المصلحة المشتركة وان لا تكون للمصلحة الشخصية دور او مكان.
الذي حدث سابقا وحديثا أخطاء قاتلة سببها الأول شخصي وليس لاختلاف فكري.
الشيء بالشيء يذكر ذات مرة التقيت عزيز الحاج في باريس عندما كان يعمل في منظمة اليونسكو...
سألته عن المبرر الذي دفعه لتلك الخطوة (الانشقاق) وإيذاء الحزب عام 1967 م
أجاب قائلا:
ان في قيادة الحزب اشخاص غير كفوئين امثال عامر عبد الله وزكي خيري وآخرين ميفتهمون!!
قلت له هذا شلون حجي!!
قال نعم يجب ان أكون انا من يقود الحزب لأنني أوسع منهم معرفة واكثر نضجا للفكر الماركسي وليس أحد غيري!!
لازم انا أصبح زعيم الحزب!!
قلت له ان هناك اطر تنظيمية تحدد من الأجدر بقيادته. فأيقنت ضرورة عدم الجدال معه، فقد خيب ظني بعد ان كنت أكن له احتراما باعتباره مثقفا.
اراد ان يجعل من نفسه فهداً ثانيا!!
ومن تلك اللحظة غيرت وجهة نظري عنه تماما ولم يعد يحظى باهتمامي لأني وجدت في اختلافه نوازع شخصية لا فكرية.

طيب نحن اليوم في روسيا لنتحدث بصراحة، هل كنا كحزب شيوعي عراقي نختلف مع السوفيات؟

 نعم، الى حد ما فقد كان الرفيق فهد ومنذ الأيام الأولى، يؤكد ان لكل بلد خصوصيته وظروفه وقد برزت جلية في كتاباته الواضحة. كذلك ذات الأمر مع الرفيق سلام عادل عندما كان في زيارة لموسكو واجه موقفا مشابها تعامل معه بذات الصيغة لمؤسس الحزب الرفيق فهد من ان للعراق ظروفه الموضوعية لكنه في مكان آخر طلب مني ذات مرة بان نوقف نشر القسم الثاني من مقال عن الصين وصل من وكالة شينخوا بتوصية من الأصدقاء السوفيات، كان المقال تحت عنوان (تحيا اللينينية) وقتها كنت اعمل في جريدة اتحاد الشعب في الصفحة الثقافية وكان معي غائب طعمة فرمان وأبو سعيد ومجيد الراضي كنا نناقش استقلالية الحزب ومواقفه من قضية بناء الاشتراكية في العراق وواقعيتها مع الرفيق عدنان البراك كانت إجابته لماذا تذهب بعيدا خذوا مقالة الرفيق فهد عن مرحلة التحرر الوطني.

 هل هنالك وثائق تؤيد ذلك؟

 نعم أواخر الثلاثينيات وبداية الأربعينيات كل الوثائق الحزبية تشير الى ان المرحلة التي يمر بها العراق وقتذاك هي مرحلة التحرر الوطني التي لا يمكن القفز فيها على الواقع.

 خلاف الصين مع السوفيات هل كان خلافا ايديولوجيا؟

ابدا لم يكن كذلك ليس له علاقة بالايديولوجيا.
بل السبب الحقيقي يكمن بطلب ماو من القيادة السوفياتية قنبلة ذرية على اعتبار ان الصين دولة كبرى وأمامها أعداء كثر لذا تحتاج اليها وقد رفض طلبه ومن ذلك اليوم صار الزعل بين الدولتين!!

 تجربة الاتحاد السوفيتي انهارت بعد سبعين عاما من البناء تحت ظل راية الحزب الشيوعي في حين صمدت تجربة الصين ليومنا هذا اين مكامن الاختلاف؟

 في الصين عملوا بفكرة مارتوف وهي حقيقة ان الصين بلد زراعي ليس فيه طبقة عاملة وتكوين هذه الطبقة لا يمكن ان يتم في يوم وليلة يحتاج على اقل تقدير مئة عام، بالمناسبة روسيا ألغت نظام القنانةعام 1860 بينما أوروبا ألغتها عام 1750م.

 أكيد هذا يؤثر على الوعي الاجتماعي!

 بالضبط أوروبا الغربية أكثر وعيا اجتماعيا من روسيا والصين التي هي دولة زراعية غير صناعية فعمدوا عمليا على تطبيق فكرة مارتوف المتمثلة بالسير خطوة خطوة وبخطى متوازية بين الرأسمالية والاشتراكية.
 في الأخير يجب ان يكون الاقتصاد بيد من؟

 هذا السؤال إجابته من القيادة الصينية يجب ان يكون بيد الدولة فيما يتعلق بالقضايا الصناعية الاستراتيجية مع فسح المجال للمشاريع الحرفية الصغيرة والمتوسطة، ومنع تكون رأسمال احتكاري كبير، الصين سارعت بهذا الاتجاه الى جانب معنوي جدا هام هو ضرورة خلق قناعة عند الشعب وقد نجحوا.

 طيب وماذا بشأن اختلاف الكتاب الروس مع النظام السوفياتي؟

 اجزم ان اغلب الذين خرجوا من الاتحاد السوفيتي 90 في المائة هم من اليهود المرتبطين بإسرائيل حتى ان حركة المنشقين كانت قيادتها يهودية وسولجستن الوحيد الذي هاجر الى أميركا رجع لأنه لم يستطع العيش هناك معتبرا أمريكا بدون حياة روحية وهو روسي قومي متعصب، سكن في مدينة صغيرة وانعزل عن العالم وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي رجع معلنا (انا ليس ضد الاتحاد السوفيتي كدولة انما انا ضد النظام).
بعد ذلك جرى التطرق الى غرامشي ودور المثقف العضوي وإعادة قراءة الماركسية بتمعن اكثر ومساهمة المفكرين الماركسيين في هذه المرحلة المعقدة التي يشهدها العالم والتحديات التي تواجه البشرية.
في الختام طلب مني الرفيق حبه الحديث عن المشهد الثقافي في كربلاء وعن زميله الراحل بدري حسون فريد وموكب طرف العباسية الشرقية ونادي الكتاب وأشياء أخرى.

عرض مقالات: