من الشعراء المخلصين لتراب العراق والذي رحل عنا بعد ان دفع ضريبة انتمائه الى الوطن وحرية أبنائه من خلال السجون والملاحقة والتهجير منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي وحتى رحليه قبل شهور، التقيته على مائدة الشاعر عبد الوهاب البياتي في عمّان وهو يلقي بالتحية كانت تقاطيع وجهه تحمل كل طيبة أهل العراق وكل مرارة المنفى وخساراته وفقدانه، أنه الشاعر جمعة الحلفي الذي جاء من دمشق الى عمّان ليوصل رسالة وزارة الثقافة السورية الى البياتي في رغبتهم بإنتقال البياتي من عمّان الى دمشق كان ذلك في صيف عام 1998، وبعد منتصف الليل من سهرتنا كان الصديق القاص علي السوداني يحمل نسخاً من كتابه الجديد ليغتنم الفرصة ويكتب إهداءه الى جمعة اللامي ! ضحكنا جميعا وحاول السوداني تصحيح الإهداء إلا ان الشاعر جمعة الحلفي رفض وقال من الجميل بأن يكون معنا جمعة اللامي عبر الإهداء. وفي آخر الليل خيَّرهُ البياتي في أن نحجز له فندقاً في أي مكان يحب، لكنه رفض ذلك وفضل ان يذهب معي الى غرفتنا في جبل الحسين والتي تطل على قلعة هرقل بعمّان فكان ثمة حسب الشيخ جعفر ود علي عباس علوان واسماء كثيرة اخرى، فرح الحلفي بلقاء هؤلاء الأصدقاء من الأدباء الذين فارقهم منذ اكثر من عقدين لنبقى الى ساعات الصباح الأولى وعندما أدركه التعب جهزتُ له سريري الخشبي الذي يتخذ ركناً من أركان الغرفة إلا إن البق لم يتركه يهنأ بالنوم وهكذا بقي جمعة الحلفي بدون نوم بسبب جيوش البق التي دائماً ما تهاجم الفقراء أيام الصيف.
في اليوم التالي أصطحبته الى مقهى السنترال ليلتقي ببعض الاصدقاء ثم أوصلته الى مجمع العبدلي ليستقل سيارة الدوج التي توصله الى دمشق حيث يقيم.
ترك الحلفي لنا في زيارته الخاطفة لعمّان عطره الدافئ وروحه الطيبة وابتسامته الخجولة. وبعد سنوات قليلة سقط النظام في العراق وعاد جمعة الحلفي الى وطنه الذي كان يحلم بالعودة إليه، كنت أتابع نشاطه الاعلامي والثقافي لكن لم تسمح الفرصة لي بلقائه خلال سفراتي القليلة الى بغداد إلا في آخر زيارة لي والتي كانت عام 2014 عندما كنا نجلس في مقهى رضا علوان وألقيت عليه التحية لكنه لم يعرفني إلا بعد ان همست باذنه حتى قام وهو يعانقني بشوق وطيبة، وعلى الفور تذكر تلك السهرة مع البياتي وجيوش البق التي حرمته من المنام في عمّان!
كان الشاعر جمعة الحلفي يحلم بوطن حر وشعب سعيد منذ بدايات شبابه الأولى، لكن الرياح كانت تسير عكس ما تشتهي السفن، فالوطن الذي اسمه العراق ظل ساحة نضال مستمرة وابناؤه مشاريع استشهاد على طول الوطن الجريح الذي ظل مضرجاً بدماء ابنائه الذين لم يعرفوا الراحة والعيش بسلام منذ عقود من الزمن المّر. لقد أدرك المرض جمعة الحلفي على عجل ولم يمهله إلا القليل من الوقت ليغادرنا في اواخر شهر شباط من عام 2018 بطريقة مؤلمة صدمت محبيه.
قال الحلفي قبل رحيله المؤلم عن بداياته الشعرية الأولى:"كنت ضيفاً على الشعر، وكما هو حال الضيف حين يبدو حرجاً وخجلا ومتردداً، كنت كذلك حينما أكتب القصيدة ولا أنام ليلتي قبل أن أقرأها لصديق واسمع رأيه فيها لكي اتأكد أن ما كتبته هو شعر حقاً".
ما كتبه الشاعر الراحل يقترب كثيرا من النفس بدون تعقيدات، فأغلب قصائده هي من السهل الممتنع، بساطتها تجعلها قصائد خالدة ومهمة، وفي عطر الغايب ينادي الشاعر بغداد من أعلى الشام التي عاش فيها منفاه القسري فتشتعل القصيدة وتبدو كالأضواء التي تضيء ظلام الليل الدامس.
يقول في مقطع من قصيدة بعنوان أبواب:

بابك دفو بالشته وبالصيف جرة مي
بساط العصر بابك ومغطه بالفي
متروس بابي سهر وبابك ينام العصر
بابك منمنم خرز ومطرز وغافي
بارد هوى عتبتي وبابك ندي ودافي.

عرض مقالات: