كلنا، أعني الأغلب الأعم، يمتلك مكتبة في بيته، ربما تقف على جدار او جزء من جدار احدى الغرف، مكتبة تضم عشرات الكتب، تصل بالنسبة للبعض الى المئات والبعض الى الالاف.. مثلا، خمسة الاف او عشرة الاف او عشرين الف عنوان، تمثل للكاتب او المختص والمعني بالشأن الثقافي "فردوسه" كما وصفها بورخيس، هذا الفردوس الذي افنى الكاتب عمره في جمعه ورصفه كتابا كتابا، ومجلدا مجلدا. كم من الليالي التي امضاها وهو سهران قبالة هذا السيل الرهيب من العناوين التي تعني حياته. كم من الهوامش اللذيذة التي سطرها وخطها بين السطور، انفعالاته، اعجابه، تذمره، تأشيره الاخطاء، الاخطاء التي كانت تقض لياليه ونهاراته، كان يكتبها على صفحات الكتب طوال سنوات، سنوات حولت بعض الصفحات الى لون آخر غير لونها، اوراق تشبه اوراق الصحف القديمة.. كل هذه الكتب التي احالها الزمن الى مجرد اكوام ـ ربما عمل على تسمير الخشبات على الجدار اذا كان الكاتب يمتلك الحظ، ولديه مساحة ستكون له مكتبته الخشبية التي تكبر كل عام او عامين، وتزحف على جدار واحد او جدارين، كل هذا يحدث امام امتعاض الزوجات، وتبرمهن من الزحف الهائل للكتب المغبرة والتي لم تتح للكاتب ان يزيل طبقات التراب عنها الا كل عام او اقل.. وسط هذا التبرم الهائل للزوجات او حتى الابناء ـ ليس كلهم طبعاً ـ تكبر المكتبة وتزداد العناوين التي تتراقص عليها عيون الكاتب، وانغماره اليومي فيها ، تكبر المكتبات، وتبدأ معالم الشيخوخة تصيب الكاتب ـ القارئ ـ حيث دورة الزمن وهي تفرض هيمنتها عليه.. تبدأ الامراض.. ضعف العيون، الوهن، ذبول الجسد.. يحاول جاهدا أن يوصي الزوجة بالاعتناء بكتبه.. او إذا أتيح لها أن تهديها الى مكتبة عامة ليستفيد منها العامة.. لم يتح له الوقت لإكمال وصيته.. يرحل الكاتب، وتبقى المكتبة الكبيرة. حالما تنتهي مراسيم الدفن ومجالس العزاء والبكاء وتجف دموع الزوجات، تتركز العيون على الغرفة التي احتلتها الكتب.. هذه العناوين المزروعة بخطوط متوازية على الجدران وملقاة بأكوام على الارض او على مكتب كان يتخذه الاب.. منضدة للكتابة والقراءة.. تنظر الزوجة بتبرم ناحية هذه الاكوام.. وتقرر أن ترزمها بكراتين او اكياس، ولكن ليس الان، "لايزال دم المرحوم ساخنا" ليس الان، لكنها تفاجأ بالابن الاكبر وهو يرصف عشرات الكراتين والاكياس في الحديقة وهي مليئة بالكتب، كتب ثقيلة.. تحمل رائحة الزنخ.. زنخ الاوراق تحت تأثير السنوات التي تثير رائحة القدم من الاوراق التي تحولت الى اللون الاصفر.. وتكاد أن تتمزق اذا نفخت عليها.. تقول لابنها "لم العجلة ودم المرحوم لايزال ساخنا" يقول لها بانه سيحاول ان يبيعها على هيئة كراتين الى احد المشترين.. وتبدأ عملية البيع.. يباع دم الكاتب وروحه وبثمن بخس .."البيع بالكراتين اسهل اماه" تبدأ الجدران تظهر بعد أن يقتلع الابن الخشبات التي نخرها الزمن وهي مسمرة على الجدار، سنوات هي العمر كله حملت فيها هذه الخشبات التي كان يسميها المرحوم مكتبة.. تلقى الخشبات في اقرب مزبلة.. وتحمل الكراتين من باعة مختصين.. يرصفونها على الارض بعد أن يتم عزل الثمين والذي لا يحمل اهمية.. المشكلة انها كلها ثمينة، لولا هذه "الشخابيط" بين السطور.. "الشخابيط" التي خطتها ريشة الكاتب.. تلك "الشخابيط" هي الشيء الوحيد الذي تبقى منه... اما الكتب فقد كدست عشرات منها فوق عشرات أخرى على الارض.. والبائع يصيح "بألف.. سعر الكتاب بألف"، وحينما تمر ساعات تبدأ النغمة مختلفة كتابين بالف.. وبعد ساعة يصيح اربعة بألف... اربعة بألف.. هي حصيلة المكتبة التي كانت تمثل فردوس الكاتب وروحه.

عرض مقالات: