عسكرنا وسط مرج أخضر، محاط بجبال مخضرة. نيسان شهر السطوع المذهل للشمس في صباحات سهل بنجوين الواسع، الذي حفرت القنابل علاماتها على خاصرته الطرية، حيث الكثير من الشظايا ورائحة بارود ممتزجة مع روائح الطبيعة الازلية. نصبنا خيمتنا في المكان الذي حدده لنا العريف نعمة بعد أن تلقى التعليمات من مقدم اللواء العقيد سلمان، كان العريف نعمة السائق الشخصي للعقيد، يركن سيارة اللاندكروز الحديثة المصبوغة بالكاكي والمموهة ببقع خضر قريبا من خيمتنا، ويمضي أغلب وقته معنا لايفارقنا، الا حينما يخرج بمهمة مع العقيد، وكلما يسمع أن العقيد يطلبه، يهرع نحو سيارته يديرها بسرعة ومهارة كنت احسده عليها، يجلس العقيد في المقعد الخلفي ويمضيان. كان يحدثنا عن الأماكن التي يذهبان اليها، بسيارة أو بدونها لا يفترقان، لم يكن العقيد بخيلا معه، إذ يمضيان اجازاتهما معا عبر ساعات طويلة يتحدثان فيها بصداقة. كنا اذا احتجنا الى شيء من العقيد نتوسط لدى صديقنا العريف نعمة، ولم يكن يرفض.
في احدى المعارك، جرح العريف نعمة، وذهب في اجازة امتدت أياما، كان خلالها العقيد سلمان يقود سيارته بنفسه، رافضا ان يحل أحد محل العريف نعمة، وحينما عاد من الاجازة تعانقا بصداقة وود.
كانت معارك بنجوين على اشدها، سمعنا من نعمة، ان أمر اللواء والعقيد سلمان ذهبا ليلا بصحبة مجموعة من الجنود بمهمة استطلاعية خلف سلسلة جبال بنجوين، اوصلتهم السيارات الى نقطة معينة وعادت، في تلك الليلة كان العريف نعمة يمسك بأصابعه يفركهما ويدخن بشراهة، رفض ان يتعشى معنا، وكان يخرج من الخيمة ويعود اليها كل دقيقة، ورفض ان يجيبنا على أي سؤال.
قبل ان تنقشع دكنة الليل، وفي ضوء الفجر الشفيف، عاد الجميع الا العقيد سلمان، اذ تلقى طلقة قناص في رأسه، ولم يتسن للقوة ان تحمل جثمانه الثقيل، حينما وصل الخبر الينا بكينا كلنا وكان اكثرنا بكاء وحزنا العريف نعمة، خصصت مجموعة من الجنود ان تعد العدة ليلا لانتشال جثة العقيد لكنها فشلت بسبب القصف الشديد والقناصة. وصلتنا الاخبار من وحدتنا المتقدمة عن المكان الذي فيه الجثة، فالمكان قريب من الكمائن، فضلا عن استحالة وصول سيارة الى مكانها.
لم يجلس العريف نعمة معنا في الخيمة، جلس في السيارة يبكي ولم تنفع محاولاتنا في اقناعه لترك السيارة، خاصة بعد أن عرفنا بتطوع قوة من المغاوير لانتشال الجثة.
بقي في السيارة يدخن ويبكي، وفي آخر مرة اقتربت منه لمحت في عينيه حزنا كبيرا.. وفهمت منه انه يعتب على الجميع لتركهم جثة العقيد سلمان في الجبال، وانه سيقوم بما لم يقم به احد منا.. وقبل ان اصل الى باب الخيمة، سمعت هدير المحرك والسيارة تدور حول نفسها بسرعة متجهة نحو الطريق المؤدية الى وحداتنا المتقدمة.... فيما بعد سمعنا ان العريف نعمة قاد سيارته بسرعة كبيرة نحو السلسلة الجبلية رغم اعتراض طريقه من وحداتنا المتقدمة، وقبل ان تصل السيارة الى المكان الذي ينتهي فيه الشارع الافتراضي، هوت في وادي عميق، تحطمت السيارة تماما، لكن جنود وحدتنا المتقدمة استطاعوا ان يخرجوا العريف نعمة برأس مهشمة وهو يصرخ باسم العقيد سلمان وقبل ان يركبوه السيارة المتجهة الى المستشفى، نظر ناحية المكان الذي كانت فيه الجثة ثم أغمض عينيه الى الابد.

عرض مقالات: