اذا كانت حياة الانسان تحديا دائما فإن الفن هو التحدي الاكثر عمقا و حساسية و إيلاما بوصفه المعني بالتعبير عنها عِبر امتصاصها و تمثلها و تبئيرها او تشظيتها أحيانا فمنذ الرحلة الأُولى للفن التشكيلي - حسب المكتشفات الآثارية لرسوم حيوان الرنة في كهوف فرنسا و إسبانيا و أماكن اخرى في العالم -
حيث كان الانسان يرسم خوفه و احلامه و سعادته ببراعة مذهلة قبل أن يعرف الكتابة بآلاف السنين كان الرسم هو لغته الاولى , لغة الاحساس و العاطفة .
هذا الفن البدائي الذي تناقلته الذاكرة الجمعية كحبل سري رافق الفنان الى عصرنا هذا مموه بالغموض و التعقيد الذي هو سمة تكتنزها النفس البشرية , و على امتداد الزمن كان الفن و لا يزال عاملا اساسيا في بناء الحضارة البشرية بشقيها المادي و المعرفي و توجيه مساراتها و من هنا يعد تسليط الضوء على المبدعين في هذا المجال رافدا للثقافة الفنية و دعوة للإحساس بجماليات الحياة مما يحدث اثرا ايجابيا في سيكولوجية الفرد وسلوكه الاجتماعي. في منتج الفنانة عفيفة لعيبي نساء لم يغادرن تاريخهن الاجتماعية رغم نظرة الامل المحدقة بالزمن ورغم الوداعة الملائكية التي تطبع هيئاتهن نقرأ في الغموض المونوليزي ايحاءات بأسرار عشق للحياة وإرهاصات عاطفية وميل للتماهي مع مفردات الطبيعة بطريقة صوفية ولمسة حب حالمة توحي بإحالات الى مداليل متعددة لا يمكن سبر جميع اغوارها لان خيال الفنانة لعيبي اوسع دائما من فضاء اللوحة بوصفها بؤرة تتقاطع على سطحها تجليات جمالية ورؤيوية وكأننا في ذاك نتبع لحناً سمفونياً يقودنا الى عالم فني يختبئ خلف الفضاء البصري الذي تبثه اللوحة فتزيح بذلك استارنا الداخلية وترسم خبايانا وتغسل أدراننا و تسمو بأحلامنا.
اللوحة بالنسبة للفنانة لعيبي بوابة لعالم نراه بعيون عواطفنا وافكارنا واحلامنا فتقودنا الى فضاء يذيب غضبنا واحقادنا وشرور العالم المتعلقة بتلابيب ضمائرنا و يثلج صدورنا المحترقة بالجهل والدونية ويحيلنا الى الهدوء الملائكي و يحذف كل التفاصيل الزائدة من حولنا و يضعنا أمام الحقيقة الفلسفية لجوهر الحياة "سؤالا على شفة الزمن" يعبر عن رؤى الفنانة الفكرية والجمالية التي توظف من اجلها كل الخطوط والمساحات اللونية وعناصر اللوحة الاخرى بأسلوب تتفرد به مفعلة في ذلك كل خبراتها وثقافتها الزاخرة المتراكمة عبر المثابرة الجدية التي ميزت حياتها الفنية الطويلة ومساهماتها ابتداء من مسرح طفولتها و نشأتها مدينة البصرة الى محطات دراساتها و تطوير فنها في بغداد وموسكو وايطاليا وبلدان اخرى حيث حصدت الفنانة نجاحات كبيرة من خلال مساهماتها بالنشاطات الفنية العالمية. فأنتجت عفيفة لعيبي فنا يستلهم التراث ويسمو به انسانيا واضعة اياه في مستوى ارقى الفنون التشكيلية في العالم.
تغوص عفيفة لعيبي في داخل الشخوص و خصوصا المرأة التي هي الثيمة الاساسية التي توظفها كقيمة فنية او رمزا يكون وسيلة وهدفاً معاً في اعمال الفنانة وتترجمها روحيا حيث تمكنت من القبض على عاطفة المتلقي وإيقاظها جماليا وفكريا والتواصل معها روحيا وبث شفراتها السيميائية في زمن عجز كثير من تشكيليي العالم عن ذلك. الامر الذي ادى الى تقوقع معظم الاعمال الفنية الحديثة و اقتصار تداولها على النخبة المثقفة.
ان التفاعل مع معنى العمل الفني المعزز بالإدراكات الحسية المباشرة يعمق من مدى تجربة المشاهد في تجاوزها المعطيات المرئية الى المعاني الرمزية المعينة وبذلك تجعل من العمل الفني نشاطا اجتماعيا يشارك فيه المتلقي مدركات الفنان التي ربما تطرح مفاهيم جديدة ورؤى فكرية و جمالية تساهم في تطرية و اخضرار حركة المجتمع.
واذا تأملنا في بعض اعمال عفيفة لعيبي نجد انها لا تنتقي رموزا تراثية و تضفي عليها لمسات حداثوية بشكل انشائي كما يفعل كثير من التشكيلين مستسهلين صناعة لوحة تتصف بالحداثة التشكيلية.
عفيفة لعيبي تحفر في صخور التراث العراقي والانساني وتغوص في اعماق العاطفة وخلاصة الفلسفة الجمالية وتصنع على نار هادئة بصبر وأناة طبخة فنية ناضجة تحوي خلاصة التجربة الواقعية التي مرت بكل المراحل التطورية لتقدم للعالم انموذجاً يحمل تراكمات واضحة للجهد الفني حرفيا وجماليا وفكريا وعاطفيا لتبرهن بذلك ان الطريق الى عبقرية اللوحة يمر عبر معاناة شاقة و طويلة رافضة بذلك وضع قشرة حداثوية على تجربة واقعية خاوية لذا نلاحظ انها لم تتعجل في تغيير اسلوبها فهي واثقة من اعمالها تضع فيها عيارا ثقيلا من الفكر والاحساس والمعاناة.
تبتعد الفنانة عن بهرج الحضارة المادية الحديثة و عن الصخب و تميل الوانها الى الهدوء و التروي الحكيم مانحة نساءها لمسة من الرفعة والقداسة التي هي رد فعل دفاعي ضد كل العوامل التاريخية والاجتماعية التي سعت لإذلال المرأة و سحق ذاتها متجهة نحو العالم الروحي للشخوص و مفردات الطبيعة عبر فلسفة جمالية تميل الى التكثيف و الاختزال و محاولة ترجمة الجوهر الروحي للإنسان فهي تفترض او هكذا نشعر إن مفردات الطبيعية لها روح ايضا تستثمرها كرموز جمالية و تعبيرية تغني الفضاء الايحائي للوحة, لا تبرز عفيفة لعيبي تفاصيل جسد المرأة التي توحي بالأنوثة فتظهر نساؤها كأنهن ملائكة هبطن من عالم اكثر سمواً ورفعة.
تعاملت الفنانة مع معظم المدارس الفنية دراسة و تدريبا و يبدو انها طورت اسلوبها الخاص المرتكز على الواقعية التعبيرية و يستفاد من الرمزية و احيانا السيريالية وجمال التجريد.
اجد اعمال الفنانة عفيفة لعيبي تضاهي او تفوق اعمال فنانين ملأت اسماؤهم عالم الفن ضجيجاً وشهرةً.

عرض مقالات: