عمل سردي قد لا تتجاوز صفحاته المائة، غير أنه مزدحم بالأعلام، اثنان وستون شخصية أو تزيد على ذلك، ومليء كذلك بالجغرافيات والأماكن التي قد يتجاوز عددها الأربعين موقعا. كائنات بشرية قادرة إنتاج الحراك السردي. محلية الأحداث التي استندت على وقائع تاريخية، وعلى جغرافيات لا يمكن أن تنتمي لسوى مرجعة الروائي، هذه المحلية استطاعت أن تمنح النص السردي حقيقة انتماء لا يسمح بتكرارها على أرض أخرى، تقف خارج قرية - بيت سنحة - أو خارج - دير الرهدار - أو خارج - نهر الهدام.
لقد تمكن الروائي علي عباس خفيف في روايته "ستة أيام لاختراع قرية" وبشيء من الذكاء السردي أن يتخلص من الأنا ودكتاتوريتها، وليمنح الآخرين الكثير من أدوات الكتابة، لقد استطاع بريس - أن يتحول إلى شخصية الراوي بعد أن منحه الروائي سلطة الحديث بعيدا عن قمع الآخر/ الأكثر معرفة، وذلك إيمانا من الروائي بقدرة العقلية البدائية على الابتكار، وذلك بحكم عدم اعترافها بالخطوط الحمراء/ الممنوعات، فهو يتحدث للقارئ كما يتحدث مع نفسه، فما من حدود، أو عوازل بين النفس والاخر، كائن بدائي لم يدجن بعد.
نص قد لا ينتمي للزمن الغابر، إلى الماضي بقدر انتمائه إلى الحاضر، ولا ينتمي إلى قرية - بيت سنحة - بقدر انتمائه إلى جغرافية الثلاثة أو الأربعة الأخيرة من القرن العشرين، جغرافية الاستعمار والانقلابات والاحتراب والحروب والاستبداد، حيث الصقر - صقر يحكم حياة القرية. حيث الذئب وهراوة الغريب التي تهشم الرؤوس.
ان حالات التأويل من الأمور الواردة ضمن عملية القراءة سواء على مستوى الأشخاص، أو على مستوى الأحداث، فرغم محاولة الروائي في أبعاد الحدث زمنيا عملية ترحيل الوقائع جغرافيا عن القارئ إلا أن القارئ الذي باستطاعته أن يخلق حالة من المقارنة/ المقاربة، بإمكانه أن يتلمس النسيج السردي الذي ينتمي إلى التاريخ القريب، بإمكانه أن يضع اصبعه على المرجعيات التاريخية والجغرافية التي حاول الروائي أن يتلاعب بانتماءاتها.
شخصيات تغيب، وأخرى تتوالد، أحداث تتغير وأخرى تنثال، هذا الحراك جاء نتيجة لعدم وجود سلطة قامعة، مانعة، من قبل الروائي لمواجهة تلك التأثيثات، فقد أخذ الجميع بنسج ما يراه مناسبا، ويقول ما يريد، وما يحب.
ان التداخل الحاصل وبقوة ما بين الواقع واللا واقع، ما بين التماهي والوضوح، دفع الرواة الأربعة إلى أن يكون نسيجهم الحكائي مزيجا من الاختلافات، والتي تشكل حالات من التشابك، الذي لا يمكن أن يفرط بالافتراض والمتاهات، إلا أن القارئ سيظل على بينة واضحة من السرد الروائي الذي ينتجه أي من الأربعة رغم التحولات السريعة.
ان نظرة هادئة - وربما يجب أن تكون متفحصة - رغم أن المخيال لا يحبذ هكذا نظرة تنتمي إلى الواقع الذي غادرته العملية السردية، لأن وظيفة الفن هي إعادة ترتيب وتركيب حيثيات الحياة، وفق نظرة مغايرة،بل إن الروائي نفسه وضمن حالة اعتراف غير معلن ومنذ بوابة النص - ستة أيام لاختراع قرية - يضع بين يدي القارئ عملية الاختراع ذاتها، أي صناعة المكان، والذي يعتمد بالأساس على عملية إيجاد ما لا يوجد، أو على إعادة اكتشاف الإنسان والتاريخ والجغرافيا، إعادة الإعلان عن السلطات القامعة، فبعد فقيء العيون، ظهرت عملية تهشيم الرؤوس، وإعادة اكتشاف الكائنات "دهر، وارغيدة، والصفار، وفنهن، وليوانة، وملا معشوق، والتعديل، وحجي صكبان، وال بريس/ الأب وآلام والحال والعم"، تلك الكائنات التي من الممكن أن تقف - مع - أو - ضد - مع القمع ضد الإنسان الاعتيادي، أو مع طموحات الإنسان الاعتيادي ضد الموت والالغاء.
لقد عمل الروائي وبجد على أن يبعد نصه السردي عن المباشرة عبر وضعه في فضاء الفنطازيا، وعدم الإشهار بالحقائق المفترضة، والوقائع الحاصلة، التي كثيرا ما تتحول إلى قوى مضادة، فصناعة نص ينتمي إلى إحداث مختلفة، أحداث تنتمي إلى صناعة المخيلة، حيث جنب النص السقوط في اللافن، و ليضعه وسط دائرة الإبداع، ورغم محاولة الروائي في صناعة مفاصل العنوانات والتواريخ الرقمية والأيام إلا أن قوة الحدث وتشعباته وتسارعها ولا واقعية الشخصيات والوقائع استطاعت أن تطغي على تقسيمات كهذه، ولتتحول الكتابة إلى نص - لا نصوص - متصلة متواصلة، نص لم يترك فراغات تدفع بالقارئ إلى صناعة محطات استراحة، بل إن لذة القراءة كانت تعتمد بالأساس، على مفروزات المخيال وقدرتها على تحويل المادي/ الملموس إلى تصورات محسوسة، وتحويل الاعتيادي إلى استثناء يمتلك من الغرابة الشيء الكثير.
عبر - سنة أيام لاختراع قرية - استطاع الروائي و بمشاركة --ناصر قوطي ---كشخصية سردية تنتمي للثقافة من جهة و للكتابة من جهة أخرى، وذات امتدادات معرفية سابقة من جهة ثالثة، أن يوفر لنفسه والنص و للقاريء الكثير من مباديء الكتابة لتتحول هذه الشخصية إلى منتجة للعديد من مفاصل النص السردي،
لقد كانت شخصية --ناصر قوطي --شخصية جاهزة، إلا أنها مملكة لتصورات الكاتب نفسه، ولم تكن شخصية نمطية، بل كانت تمتلك من الحراك مساحة واسعة، والذي حولها بدوره إلى شخصية مكتشفة، شخصية قد تنتمي للروائي ذاته، أكثر من انتمائها لشخصية مصنوعة، وقد كان كل من الرواة الأربعة، يعمل على أن يقول ويكتب أو يروي، ضمن حالة من حالات انفتاح النص على الآخرين، إذ أن تناسل الأحداث والوقائع أوجب على الروائي صناعة وإنتاج شخصيات قد تؤدي ادوارا إضافية أخرى، غير الدور الرئيسي المناط بها، ولما يحدث، إذ أن تعدد الأحداث أنتج تعدد الشخصيات، وبالتالي كان الروائي واقعا تحت سلطة حراك النص، سلطة الاندفاع بعيدا عن الثوابت/ ثبات الواقع الحياتي في - بيت سنحة - قريبا من التبدلات والتغيرات التي تطرأ على سير الأحداث، موت/ ولادة، مجيء/ ذهاب الشخصيات، بل إن الروائي لا يحرم القرية من فرصة وصول للتغيير التكنولوجي اليها، عبر الزوارق البخارية، أو - الكاميرا - التي كانت تشكل عين الآخر/ الأجنبي/ الرجل الأشقر، تلك الزوارق التي كانت تدفع بـ -الدوبة - كحالة من حالات التغيير، التي يقودها الرجل العاري الصدر، والذي كان من الممكن أن يكون بطلا ليوم -عين النهر - حيث تكون تصورات - بريس - والذي يقود عملية السرد في هذا الفصل.
هذه التصورات التي تشبه الواقع الضاج بالحركة/ اللعبة الكاذبة - حيث اللاواقع - مثل أكذوبة دوى هدير مفزع في نهر الهدام، ففي هذا اليوم قام صاحب -الكاميرا - صاحب الجسد الذي يبدو كذبيحة مسلوخة، وعبر مركبه أن تفقأ عين النهر أن يفتض بكارته، لينمو عليه وعبر ضفتيه الجسر الخشبي.
القارئ وسط غابة من الأسماء - اسماء الأماكن والشخصيات - بحاجة إلى استقبال نشيط، استقبال يتمكن عبره القارئ من صناعة شبكة من انتماءات الأحداث للأشخاص، وليتمكن بالتالي من صناعة حالة من التأويلات، إذ هناك الكثير من الأحداث التي تنتمي إلى صناعة التاريخ المؤثرة، والفاصلة في حياة القرى والمدن، وفي حياة شرائح المجتمعات والشعوب.
رواية "ستة أيام لاختراع قرية" من غير هكذا شبكة لا يمكن أن تؤتي أكلها، إذ أن القراءة من غير دراية، فعل غير منتج لمعرفة الوقائع، لمعرفة مسبباتها ونتائجها، وأن لم تكن الرواية --كفعل إبداعي --وفي احايين كثيرة غير معني بتفسير ما حدث،، بل هو معني بالاكتشاف، وتأويل محمولات السرد، ومعرفة ما يوجد بين وخلف السطور، حيث يكون القارئ هو المعول عليه في صناعة الاكتشافات، فالرواية لا تنتمي إلى فعل الروائي ذاته، بل إنها من الممكن أن تكون منتمية إلى شخصيات السرد، ومن الممكن أن تعكس طموحات و توجهات شخصيات النص سواء على المستوى المعرفي أو الفكري، ربما ينتمي البعض من هذه الشخصيات إلى حالة من الاستقلالية في طروحاتها.
والكتابة الروائية من غير كوامن او غواطس قد تتحول إلى حالة من حالات - العرض حال - أو الفعل الصحفي، حيث يتسيد الوضوح اللا فني والذي لا يمكنه أن يخفي الوجه الآخر للنص، الوجه الذي بحاجة إلى التجربة القراءاتية، والمعارف، والمخيال، و القدرة على التأويل، امتلاك الخبرة.
لقد كان لتعدد الرواة، ولإختلاف مشاربهم، وتعدد زوايا النظر إلى الوقائع والكائنات البشرية/ شخصيات القص، ما يوفر للنص الروائي الكثير من أسباب الإبداع، واذا ما كان الواقع بكل حذافيره متوافرا في النص، فإن مبدأ اللاواقع والذي قد يبدو بعيدا جدا عن حسابات العمليات الواقعية، إضافة إلى مبدأ البحث عن الماضي/ التاريخ المرتبط بالحاضر والمستقبل، واستخدام قدرة الكشف والتنقيب، كأي عملية اثارية. لا بد له من أن يتمتع بذهبية متوقدة تدفع به بعيدا في الأعماق حيث تتوفر حالة البيان/ الحضور.
ولكن هذه التواريخ كثيرا ما تقف خلف سواها من مفاصل الكتابة، فالتاريخ في النص الروائي هذا يشكل اللحمة والسداة لتوفير، العديد من السرديات، وعبر مفصل أو مفاصل كهذه يتحرك الروائي ليعلن موقفه المتماهي خلف مواقف شخصيات النص، سواء كانت تلك الشخصيات رئيسة أو ثانوية، شخصيات بانية /مؤثرة، أو شخصيات خاملة /عابرة، فالتعامل مع شخصية مثقفة، متعلمة مستعدة للدخول في فضاء التفكير من جهة، والتعامل مع شخصية أمية أو شبه أمية، غير جاهلة من جهة أخرى، شخصيات تمتلك الموقف والرؤية والقدرة على التعبير، أو شخصيات تابعة/ ناقلة، لا تعاين إلا ما يحاذي حركتها، على الرغم من أنها مدمجة بحركة سواها، هذا التعامل قد يشكل مصدرا لصناعة إشكالات كتابية أو فكرية من الممكن أن تتقاطع مع هموم الروائي.
غير أن الروائي استطاع أن ينتقي شخصية فاعلة غير حاملة، استطاع أن يثير حفيظته، وداخل الشخصية ذاتها، عبر وضعها وكما يقال على المحك، لتغتسل بمياه الفنطازيا، وبمياه الأكاذيب التي لا تنتمي إلى الحلال و الحرام، أو الجنة والنار، وخلق حالة ضرر، بقدر انتمائها إلى صناعة التاريخ والجغرافيا والكائن السردي، أكاذيب منتجة لتصورات تنتمي إلى اللا واقع، إلى الحلم، إلى الكوابيس، لأن الإبداع لا يمكن أن ينبت وينمو في فضاءات الثوابت لذلك سيجد القارئ أن شخصيات السرد تتحرك في فضاءات التحولات، سواء بفعل ذاتي بدائي. غريزي أو بفعل معرفي مقصود عبر تأثيرات الآخر/ الروائي، أو الآخرين/ الشخصيات المحاذية.
ان الشكل الكتابي/ معمارية السرد، وعبر تقسيماته إلى أيام وتواريخ الجمع، وعنوانات العيون، هذه التكسرات في جسد الخط المستقيم للبنية الحكائية هي محاولة لتهدئة تدفق حالات السرد، على مستوى حركة الشخصيات والأحداث أو الخيال، فبسبب التدفق الحاصل لوحدات الحدث، وهذه السيولة والمتابعة المحتملة/ الحاصلة فعلا، اوجبا صناعة كسر النسق الضاغط، قبل أن تتحول العملية المتلاحقة للافعال أو للأحداث السردية إلى حالات من الارتباك والفوضى والتراكمات.

عرض مقالات: