بين السهولة والصعوبة في أمر ما هو الفارق بين السماء المرئية للعيان، وبين الارض التي نقف عليها. ومن هذا المنطلق ننظر الى كلمة "رواية" وأين نضعها؟
فأن تضع مصطلح "رواية"، والشيء نفسه ينطبق على القصة والشعر، وأي فن إبداعي، على غلاف الكتاب الذي تنشره بين الناس أسهل من ليونة الماء. إلّا أن الصعوبة تكمن، وهي كامنة حتماً، في متن هذا الكتاب، في ما يضمه من مجريات الأحداث. في التعامل الصحيح والفني مع الشخوص. في الوصف إن تطلب الأمر ذلك. في التعامل مع الزمان والمكان. في الاستباقات واللواحق. في المسك بجمرة الموضوع ذاته. انها صعوبة في كل شيء تريد أن تسطره في هذا الكتاب الذي أسميته "رواية".
كتابة الرواية تختلف عن نقل خبر ما، أو حكاية ما، أو "سالفة" على السلاطين أو الجن. هي ليست خبراً ينشر في جريدة، أو مجلة، أو موقع الكتروني. وهي ليست حكاية ما نقصها على الذين معنا، و ليست سالفة تروي خرافات واساطير ينام أثناء سماعها الاطفال، انها بناء متكامل. فرق كبير بين أن تقدم "قصة"، أو أن تقدم "حكاية"، لأن الحكاية تتطلب منك ان تقص ما تحكيه، و من معاني القص تتبع الأثر، والتتبع يتطلب معرفة كل شيء، الزمان، المكان، الوصف، الشخصيات.
وعلى سبيل المثال، ان الرواية، كفن سردي، تعتمد – حالها حال الفنون السردية الأخرى – أساساً، من ضمن ما تعتمد عليه، على عنصرين مهمين – من ضمن عناصر كثيرة – هما الزمان والمكان، على الرغم من نسبية هذا الاعتماد، وتأثيره في مسيرة السرد، وان من السرود ما يعتمد أساساً على الزمن، حتى صيّره البعض بطلاً في بعض النصوص.
وقد توصلت المناهج النقدية الحديثة التي درست النص من داخله، أي المناهج النصية، الى أهمية الزمن، كعنصر فاعل فيه. فضلاً عن ابراز تنوعاته العديدة، وصيغ تجلياته.
ان للزمن دورا كبيرا في عملية السرد. اذ أنه يقوم بوظيفة مهمة وخطيرة، هي وظيفة تحويل الحدث "الخام"، أي الترتيب الطبيعي للأحداث كما جرت بالفعل، حقيقة أم تخيلاً، بصيغة المتن، الى حدث مسرود. اضافة الى ذلك، فإن وجوده في النص، لم يكن وجوداً مستقلاً، ذلك لأن عناصر النص الأخرى، ترتبط ارتباطاً وثيقاً به، فالشخصية مثلاً، لا يمكنها أن تعيش وتنمو وتتطور في النص خارج نطاق الزمن ومساره. والحدث كذلك، لا وجود له خارج الزمن، اذ لولا الزمن لما كان هنالك حدث ما. والقول نفسه ينطبق على المكان، وعلاقته بالزمن أو الشخصية أو الحدث.
ان تنوع وتعدد أوجه السرد، يتأتى أساساً من تنوع وتعدد بناء الزمن في النص.
وهكذا يحظى الزمن بالأهمية، فضلاً عن أهمية تحليله ودراسة تركيبه كما يتجلى في النص.
وعلينا التنبيه الى مسألة مهمة عند دراسة تشكل الزمن في "الحكاية" واختلافه كما هو عليه في "القصة"، هي أن النصوص السردية الحديثة تقوم بتشكل زمنها بصورة معقدة جداً، خاصة اذا كان النص من نوع الحكايات ذات الشكل السردي الذاتي الى حد ما، و/ أو الذي يستخدم ضمير المتكلم في تقديم الاحداث... ويكون التعقيد شديداً عندما ينبني النص على تعدد الأصوات بتعدد وجهات النظر، أو وجهة تقديم الحدث.
أكتب هذه السطور لأنه يصلني الكثير من الكتب التي سطرت على غلافها كلمة " رواية " وهي ليست برواية وانما هي أما أن تكون خبراً عاديا ينقل لك حادثة ما. أو أن تكون واحدة من "حكايات جداتنا"، كما عند بعض كتابنا الذين عندهم أزمة في التفكير وأزمة في التعبير.
لقد ساعدت دور النشر الموجودة في العراق وسوريا ولبنان على طبع مثل هذه الكتب وانتشارها. وتقع مهمة فرز الرواية عن غيرها على عاتق النقاد، ليس في أن يقيّم ويقوّم هذا الكتاب، أو ذاك، بقدر ما هو دراسة الروايات الحقيقية – بكل معنى الكلمة - وترك "الروايات" غير الحقيقة التي تنوء تحت غائلة قصور التفكير والتعبير، أو التعبير لوحده.
الكثير مما تصوره كاتب الرواية تلك على ان ما يكتبه هو رواية، وفي المحصلة النهاية تظهر انها ليست كذلك. انها تعيدنا الى السنوات الأولى من بوادر الكتابة الروائية في العراق خاصة، وليس إلى سنوات التأسيس. انها تسطير خبرا ما عن حادثة أو حوادث. أو أن يكتب مذكرات خاصة بالكاتب ذاته وقد قدمها بأسلوب صحفي أو اسلوب علمي جاف، فلا يقدر على الامساك باللغة.
المطلوب – على أقل تقدير - في كتابة الرواية هو اللغة المستخدمة. صحيح ان اللغة ليست الوسيلة الوحيد للتواصل والتوصيل، ولكن يمكن أن نكتب أدباً بها ومن خلالها، ورواية خاصة – تسحر القراء. اذ أن الأدب بصورة عامة هو لعب على/ وفي اللغة كما يقال. اللغة التي على الأديب بصورة عامة أن يضفي عليها جمالاً فوق الجمال الذي تتمتع به، عليه أن يختار الألفاظ من قاموس ليس القاموس العام الذي يأخذ منه جميع الناس ألفاظهم منهم، وليس أن يختار مقلعاً للحجارة يهرع اليه ليحفر فيه كلما احتاج أن يكتب رواية - أو أي نوع أدبي آخر - بحجة أنه يبحث عن العمق والجمال، فيما العمق والجمال موجود خارج هذا المقلع، انه في "السهل الممتنع".
أقول رفقاً بالرواية، فالرواية فن قبل كل شيء، وعلينا أن نكتبها بشروط نوعها، وقبل ذلك بمحبة زائدة و عفوية.

عرض مقالات: