لم يكن المكان من اختيار أحد، بل حددته الدعوة الكريمة من صالون المقهى الثقافي في الموصل لالقاء محاضرة عن الثقافة ومنعرجاتها وعن الانثروبولوجيا وارتباطها بالحياة اليومية للإنسان. وكانت المحاضرة، شأنها شأن اية محاضرة، تغتني بالتعقيبات والملاحظات. ونظراً لسعة موضوعها “الانثروبولوجيا والأمكنة الشفاهية” اصبحت واحدة من الطرق الفكرية للدخول إلى معنى حياتنا اليومية وما يتشكل فيها عبر الممارسة من تصورات عن الإنسان والثقافة والفكر.
أقول كانت المحاضرة مجسا لي وللحاضرين من أن مواضيع مثل هذه لا تكون خارج الثقافة اليومية ولا في داخلها كليا، هي من المواضيع التي لايمكن الاستغناء عنها في اي تفكير منهجي أذا اريد للتفكير ان يكون طريقة لرؤية ما يحدث. وقد اخترت شعيرة جزئية هي البيت لا طبق عليه تصوراتي المثيولوجية والانثروبولوجية والمثيولوجية والسوسيولوجية، وهي مفردات لا يمكن استيعابها في محاضرة إلا وتكون جزئيات متناثرة في موضوع كبير وواسع هو الثقافة.
لم تكن العلاقة مع نينوى ضمن هذه المحاضرة فقط، ففي العمق من وجداني الوطني والإنساني ان اشارك اهلها جزءا من محنهم وهم يهجرون ديارهم. فذهبت بمعية الاصدقاء الكرام الشاعر رعد فاضل والقاص قيس والناقد محمود جمعة الى أيمن الموصل، وهناك رأيت ما لم اره حتى في اية تصورات متخيلة عن مدينة كانت، ثم انمحت من معالمها الشواهد، ولم يبق منها إلا بعض علامات تدل عليها.
رأيت وجوها يقفون امام دكاكينهم المتهدمة وهم يعيدون ما يمكن للموصل بعض حضورها. ها هم يستلون من ذاكرتهم وجودا لا يودون نسيانه مدينة قتلت بأيد مجرمين يدعون الإسلام، مجرمين حاولوا أن يمحوا وجودا لمدينة وتاريخ ومثيولوجيا وانبياء وشعراء وفنانين ومفكرين.
هذه الكينونة لمدينة عريقة بدت اليوم خارج الزمن، ترى من يعيد لنينوى غير أهلها تلك الكينونة التي علمت تأريخا وانتجت حضارة وبشراً متفانين من اجل العراق.
التقطنا صورا وتصورت انفسنا في داخل تلك الصور، فإذا بالمدينة نحن، خرائب بشرية تنهض من سباتها لتقول لحكامنا: فكروا في المستقبل! وثمة صوت خفي يصرخ في دواخلنا، قد جئناك يا نينوى نحمل إرثا من الدمار: هنا في ايمنك، وهناك في البصرة وبغداد ومدن عراقية أخرى، جئناك ونحن محملون بما يكفي من مؤونة للرحيل الى ازمنة التيه الجديدة، التي اوغل حكامنا في ابقائها سورا يحيط بنا طوال خمسة عشر عامًا دون ان يفتحوا فيه اية نافذة للغد.
ترى من يكون داعش غير تلك الافكار المختزنة القبيحة في النص القديم، والتي بدت لنا انها من مخلفات زمن الموتى، ومهما قيل بشأنها هي جزء من امبريالية النص القديم وهيمنته على مستقبل إنساننا العراقي.
حقيقة لا تكفي ان تسكب دموعا على ايمن الموصل،بل علينا ان نقيم العزاء الدائم على مستقبل العراقيين الذين لايرون إلا الرايات السود وهي تلطخ سماء مدننا باسم داعش.
حزين انا يا نينوى، لانك المدينة الظل للمدن العراقية كلها، المدينة الراس في خارطة الزمن العراقي القديم والحديث، بينما تكون البصرة قاعدة العراق التي منها ينهل خيراته، البصرة المدينة المباعة المشتراة من قبل عصابات الجور والسرقة، وكلتا المدينتين هما عراقنا الحالي..

عرض مقالات: