رغم اهمية النقد المعماري في اغناء المنجز المعماري المعاصر الا ان هذا النقد ظل في العراق ولفترات طويلة بعيدا عن رصد وفحص وتقويم التجارب المعمارية الحديثة والاسهام بشكل فاعل في مسيرة الحركة النقدية المعاصرة، وذلك لانه اختار لنفسه العزلة مفضلاً ان لا يقترب من هموم واشكالات المشهد المعماري المعاصر، فكان اسير الدرس الاكاديمي في الكليات الهندسية والمراحل التاريخية والآثارية القديمة او غير المعاصرة.
ولقد كان الدكتور المعمار خالد السلطاني سباقاً في طرح نفسه كناقد ومنظر وباحث في فن العمارة المحلية والاقليمية والعالمية، وسعى منذ سبعينات القرن الماضي الى ارساء قواعد ومناهج النقد المعماري المتعارف عليها دولياً، داعياً اكثر من مرة الى تأسيس رابطة انقاذ العمارة في العراق من اصحاب الاختصاص وعشاق العمارة من دون جدوى. ومع ذلك فقد استثار هذا الاستاذ الفنان العديد من الاقلام المهمة في العراق للاستجابة لدعوته، ومنها اقلام رفعة الجادرجي واحسان فتحي وشيرين احسان شيرزاد ومعاذ الآلوسي وشريف يوسف وعلي ثويني ومحمد مكية وسعاد عبد علي واسعد غالب الاسدي، وآخرين. فاصبحت لدينا حصيلة نقدية طيبة تفند كل الحجج التقليدية الواهية التي تقف ضد الموضوعات المعمارية.

استدراك اولي

علينا ان نعترف ان تاريخ العمارة يهمل الابنية التقليدية التي تعد ابنية نفعية محضة وليست معبرة، وينبغي التفريق بين العمارة المحلية "الشعبية" والعمارة المصممة "الوظيفية". ففي الاولى يكون البناء بدائياً وطبيعياً وفطرياً وذا خصائص محلية ولا وجود للتصميم فيه، بينما يكون البناء في العمارة المصممة صنعيا ومهذباً، تصويرياً ومخططاً، ويكون نتيجة جهد ذاتي لخلق شيء جديد.
ان جدل النقد والكتابة عن تاريخ العمارة يتم عادة اما على اساس التصنيف الجغرافي او على اساس الترتيب الزمني، ولا ضير في دمج الاساسين في عرض اي موجز لتاريخ العمارة في اية بقعة في العالم.
ويمكن القول وباختصار ان تاريخ العمارة ونقده ليس فيه شيء من ترف الفكر وحذلقة الكلام، وانما يبحث عن الاساليب والانماط والتكوينات التي ظهرت وتطورت في العمارة المصممة التي عكست وعبرت فنياً عن الاحوال الاجتماعية والحضارية للشعوب، فعادات وتقاليد اي شعب من شعوب العالم تؤثر على طريقة معيشته اليومية، وبالتالي تحدد نظام الحياة فيه وخاصة في ما يتعلق بالمسكن، فضلا عن المناخ الذي يؤثر بعوامله المتعددة على شكل البناء وتوجيهه، وكذلك على مسطحاته واسلوب تحديد فتحاته، كما ان انواع العبادات وطرق ممارستها ساهمت في تحديد شكل ومساقط المعابد، سواء اكانت وثنية ام توحيدية، ولقد كان نظام الحكم في اي بلد له تأثيره الكبير على خصائص العمارة.

ظهور العمارة الحديثة في العراق

ظهرت العمارة الحديثة لدينا خلال نشوء الحكم الملكي في العراق عام 1921 ضمن مرحلتها الاولى، وهي مرحلة استمرت لاكثر من ثلاثة عقود جرى فيها تأمين مؤسسات الحكم والدولة التي كانت في طور الانشاء واحتياجاتها لمبان ومنشآت. لقد كان المعماريون الذين عملوا في تصميم المشاريع وتنفيذها في هذه الفترة غير عراقيين، إذ شغل وظيفة معمار الحكومة في دائرة الاشغال الحكومية وقتذاك معماريون ومهندسون انكليز ومنهم ايج ميسون وجي كوبر وولسن وباكستر وجاكسون حتى وصول المعمار العراقي الاول المرحوم احمد مختار ابراهيم من بعثته في بريطانيا عام 1936 وشغل هذه الوظيفة، وكان انجازه الاول والفريد في حينه مبنى النادي الاولمبي في الاعظمية عام 1940، حيث اعتمد في التصميم على المساحات المستوية المستقيمة واستخدام الخرسانة المسلحة لأول مرة في الاعمدة والتسقيف.
وقد سبق هذا المبنى مستشفى مود في البصرة عام 1921 للمعماريين ولسن وميسون، وابنية جامعة آل البيت في الاعظمية خلال 1922- 1924 للمعمار ولسن وقصر الزهور 1933 للمعمار ميسون، والمقبرة الملكية 1934- 1936 للمعمار الشهير جي بي كوبر الذي صمم في ما بعد المحطة العالمية والبلاط الملكي ومجلس الامة وكلية الهندسة. ثم دور السكن العراقية التي صممها المعماريون الانكليز في منطقتي العلوية والسكك في بغداد ومنطقة الميناء في البصرة خلال اربعينيات القرن الماضي.

فذلكة تاريخية

لا يمكن ان ندرس تاريخ العمارة الحديث في العراق دون ان نعرف انه امتداد لمراحل سبقته ومهدت له، باعتبارها مدخلا الى العصر الحديث الذي يختلف الباحثون ومؤرخو العمارة في بدايته. فهناك من يرى انه امتداد لعمارة الحضارة القديمة في وادي الرافدين. وهناك من يرى انه يبدأ بحملة بريطانيا في احتلال العراق خلال الحرب العالمية الاولى 1914- 1917. وهناك من يرى ان عصر العمارة الحديث يبدأ بفترة تأسيس الحكومة العراقية الاولى عام 1921 حتى انشاء مجلس الاعمار في مطلع الخمسينيات. وهناك من يرى اخيرا ان النهضة المعمارية قد تزامنت مع هذا المجلس وازدياد اعداد المعماريين العراقيين من ناحية ونشوء حركة فنية عراقية في الرسم والنحت والشعر والقصة والمسرح من ناحية اخرى.
شخصياً، ارى انني اميل الى الرأي الثالث مع حق المرء في ان يلتزم بما يراه صائباً من هذه الآراء. ويخيل الي ان مناقشة الآراء الاربعة قد يخلق لنا زاوية جديدة للنظر والتمعن والفحص، وربما يخلق لنا لغة نقدية متجددة ومتسعة تتيح لنا الاقتراب الى رواد العمارة الاوائل في العراق.
فالرأي الاول يستلهم عمارة وادي الرافدين من خلال الحضارات القديمة كالسومرية والاكدية والبابلية والآشورية، حينما استخدم الطين للبناء كمادة اولية بدءا باللبن ثم الطابوق المفخور "الآجر" مع مونة القير في المنطقتين الجنوبية والوسطى، خصوصا مدن اور ونيبور واريدو ولكش وبابل، في حين استخدم الحجر في المنطقة الشمالية لوفرته في نينوى ونمرود وارنجا وأربا أيلو. وقد استخدمت العقود الدائرية في البناء لغرض التسقيف والعتبات فوق الفتحات، كما هو في باب عشتار او كما في مدن سوسه وخورسباد، اذ يعتبر منشأ العقود الدائرية عراقياً بامتياز، ومنه انتقل الى الرومان، واستمر استخدام هذه العقود بصورة متطورة كما يظهر في آثار المدائن "طاق كسرى" او الحضر او الابنية التي شيدت في العهد الاسلامي كقصر الاخيضر، كما جرى استخدام القباب والشرفات المسننة، وقد تميزت عمارة وادي الرافدين بصورة عامة بأبنيتها ذات الفناءات المتعددة، كما ان معابدها اتخذت اشكال الهياطل المخروطية ذات المنحدرات المتدرجة، وهي الزقورات التي تختلف عن الاهرامات في مصر وتسبقها، اذ ان الزقورات تبنى في المدن كأمكنة للعبادة وتقديم القرابين، بينما انشئت الاهرامات خارج المدن في الصحراء كمقابر للموتى.
اما الرأي الثاني فهو من ابتكار دعاة الكولنيالية ودهاقنتها في العراق، الذين يرون ان فعل التحديث الذي حصل في العراق منذ بدايات القرن العشرين هو من صنيعة "ابو ناجي" ككناية للمحتل البريطاني. وهو رأي شاع في النصف الاول من ذلك القرن بدعوته الى المثاقفة الاعتباطية مع ثقافة المحتل في وحدة متشابكة متداخلة الاطراف حتى ليصعب على هؤلاء الدعاة ان يعزلوا جزءاً منها خارج هذه الوحدة. وهذا هو ما فعله ساطع الحصري واقطاب نظام الحكم الملكي البائد في طروحاتهم الحياتية ومذكراتهم التالية.
والرأي الثالث - وهو ما اود التأكيد عليه ثانية – يعبر عن الارهاصات المبكرة للحداثة والتحديث في الفن المعماري العراقي خلال الفترة الممتدة بين تأسيس الدولة العراقية عام 1921 وحتى بدء اعمال مجلس الاعمار العراقي عام 1956. وهي الفترة التي اوفد فيها المعماريون الاوائل للدراسة خارج العراق، ومنهم احمد مختار ابراهيم ومحمد مكية وجعفر علاوي وحازم نامق وعبد الله احسان كامل ومدحت علي مظلوم وقحطان عوني ورفعت الجادرجي وقحطان المدفعي وهشام منير، وكان لهم دور اصيل وبارز في رفع رايات التحديث المعماري، وكانوا هم رواده ومؤسسيه، حينما كانت الثقافة التقليدية السائدة لم تكن ترضي طموحاتهم، او تشبع نهمهم الى المعرفة والتطلع الى آفاق فنية وهندسية جديدة، فانفتحوا على حركة العمارة والفن في العالم وفتحوا كوة يطلون منها عليها، ويتعرفون على ما جّدْ فيها من تيارات ومذاهب فنية، ويحاولون نقلها الى ثقافتنا الوطنية، ويفتتحون مكاتب استشارية تُعنى بها وتعرف بمفهومها رغم قساوة الظروف الاقتصادية وتعسف السلطات الحاكمة.
اما الرأي الرابع والاخير، فهو تحصيل حاصل او تتمة ملزمة للرأي السابق، اذ بدأت فيه نهضة معمارية جديدة حينما بدأ مجلس الاعمار ممارسته الفعلية عام 1956 رغم قصرها الزمني الذي سبق ثورة العراق الجمهورية عام 1958 وهي على العموم نهضة رافقتها تحولات سياسية واجتماعية وثقافية عميقة. فعلى المستوى الاقتصادي كان النظام الملكي شبه الاقطاعي يؤول الى التفسخ والانحلال، وكانت الشرائح البرجوازية والعمالية تنمو وتتقدم في حين بدأ المجتمع يتخلص من وطأة الظروف المعيشية القاسية التي سادت اثناء الحرب، ويشهد تغيرا عميقاً في عاداته وتطلعاته.

فترة الازدهار المعماري

تبدأ هذه الفترة التي استمرت حتى اندلاع الحرب العراقية الايرانية 1980 بعد وفود المبعوثين المعماريين من الخارج قبل الحرب العالمية الثانية وما بعدها وازدياد عدد المهندسين من اختصاصات اخرى، خصوصا بعد تخريج كلية الهندسة لمهندسين مدنيين ابتداء من عام 1946 ثم تأسيس القسم المعماري في الكلية ذاتها عام 1959 مع استقدام اشهر اساطين العمارة في العالم، امثال: فرانك لويد رايت، لي كوربوزيه، خوزيه سيرت، والتر كروبس، ألفار آلتو، جيو بونتي ودوكسيادس.
وكان من ابرز رواد العمارة في العراق ومعلمها الاول د. محمد مكية الذي ابتدأ مشواره المعماري في اواخر الثلاثينات بتصميم دار فاضل الجمالي في الاعظمية ودارة الاميرات في المنصور ومبنى المستوصف العام في ساحة السباع 1949 ومبنى بلدية الحلة 1951 وفندق ريجينت بالاس في شارع الرشيد 1954 وجامع الخلفاء في الشورجة 1963 وكلية التربية 1966 ومكتبة الاوقاف 1967 ومبنى مصرف الرافدين في الكوفة ومبنى مسجد الكويت الكبير 1976 ومسجد الصديق في الدوحة 1978 وكذلك التصميم المعد للجامعة العربية في تونس 1983 وعشرات المشاريع المنفذة في بلدان الخليج في السنين الاخيرة.
اما منجز رفعة الجادرجي المعماري فيتمثل بعمارة الجوربجي في شارع الشيخ عمر 1953 وقاعدة نصب الحرية في ساحة الحرية ونصب الجندي المجهول في ساحة الفردوس 1959- 1961 ومبنى اتحاد الصناعات العراقي في ساحة الخلاني 1966 ومبنى شركة التأمين الوطنية في الموصل 1966 وعمارة الشيخ خليفة في البحرين 1969 وكذلك مبنى المجمع العلمي في الوزيرية ومبنى المصرف الاسلامي في الميدان ومبنى الاتصالات في شارع الرشيد، وغير ذلك الكثير.
ولعل المجال لا يتسع هنا لذكر المنجز المعماري لبقية الرواد كهشام منير وعبد الله احسان كامل ومهدي الحسني والقحطانين "عوني والمدفعي" وجعفر علاوي ومدحت علي مظلوم واحسان البربوتي وآلن جودت الايوبي وصولا الى ايقونة العمارة العالمية وسيدتها الراحلة زها حديد.
لعل من المؤسف – اخيرا – ان نرى بعض الشواخص المعمارية في بغداد قد دب فيها الوهن، متناسين صيانتها والحفاظ عليها، وربما لا نمتلك همة نسخرها في المزيد من البناء الحضاري.. اترانا فقدنا الذاكرة، وهي اساس في تكوين المجتمع؟