لعبت الجماعات المسرحية العراقية، لا سيما الفرق المسرحية منها، دورا مهما في تكريس الظاهرة المسرحية، فكانت وسيلة من وسائل الكشف والتوعية والتحريض والتعبئة، ولذا كان نصيبها من الاجراءات التعسفية وافرا جدا. فما اكثر ما ألغيت امتيازاتها أو عُطّلت عروضها، او عدّت مادة جرمية، وكان ذلك يجري تحت رقابة صارمة وفي ظل قانون ملكي يدعى "قانون الملاهي" الذي لا مثيل له في تعسفه سوى "قانون المطبوعات" الذي كان يرغم ادارات الصحف – ترهيبا وترغيبا- على السير في سكة السلطة والتأييد لسياساتها.
واستكمالاً لما كتبنا حول الجماعات الادبية والفنية في العراق، ومن اجل ان نضع صورة حقيقية لها ضمن مزيج من الذكريات والانطباعات والتاريخ والنقد، صورة تفصيلية لا تزويقية ولا هلامية، صورة لا تستبد بها دوافع ذاتية ولا انحيازات خاصة، فلا بد لنا هنا ان نتوقف عند اشكال التجمعات المسرحية في العراق، وهي تجمعات متعددة في التاريخ الفني العراقي المعاصر، أُغفل التطرق الى منجزها او مناقشة مشاريعها لأسباب شتى.
شخصياً، أرى ان نقصر البحث عن هذه الجماعات او التجمعات المسرحية ضمن الفترة المألوفة من عمر الظاهرة المسرحية في العراق، اي الفترة المحصورة بين اواخر القرن التاسع عشر والارهاصات المتعاقبة والتدريجية من القرن العشرين وما تلاه من تجليات واحداث في ألفيتنا الثالثة بشكل موجز، ومن اجل التذكير بما كان لنا من جماعات مسرحية شكلت ارهاصا مهما في تاريخ المسرح العراقي المعاصر.
ان الدارس للجماعات المسرحية في العراق يجد ان جذورها تمتد الى الثلث الاخير من القرن التاسع عشر، بعد ان عنى الآباء المسيحيون بالمسرح وعملوا على خلق حركة مسرحية في نطاق كنائسهم ومدارسهم المسيحية، لبث التعاليم الدينية والاخلاقية بين رعاياهم، واستمدوا احداث مسرحياتهم من العهدين القديم والجديد لغرس الايمان في نفوس رعاياهم وتنويرهم بالتعاليم المسيحية. ومن اشهر هؤلاء الاب حنا حبشي الذي طبع في عام 1880 ثلاث مسرحيات قصيرة حملت عناوين "كوميدية آدم وحواء، كوميدية يوسف الحسن، وكوميدية طوبيا". والاب هرمز نورسو الكلداني الذي الف مسرحية "نبوخذ نصر" عام 1886. وكذلك الاب نعوم فتح الله سحار الذي قدم مسرحية "لطيف وخوشابا" عام 1893 ثم مسرحية "الامير الاسير" عام 1895. وقد عدّ الباحثون العراقيون خطأً ان "لطيف وخوشابا" اول مسرحية عراقية، وخلعوا عليها اهمية كبرى في تاريخ المسرح العراقي، في حين انها لا تعدو عن أن تكون نصا مُعَرّقا "من التعريق" وباللهجة الموصلية تحديداً عن احدى النصوص الفرنسية الكنسية الشهيرة.
فاذا ما انتهينا من جماعة الآباء المسيحيين في الموصل، باعتبارها اول الجماعات المسرحية التي سعت الى تكريس الظاهرة المسرحية في العراق، وان كانت على نطاق جغرافي محدود، فستواجهنا الآن الجماعات المسرحية المنطلقة من الملاهي العراقية الشهيرة في بواكير القرن العشرين، نظرا للعلاقات التجارية والسياسية والفنية الوثيقة بين بغداد والموصل وحلب ودمشق والقاهرة، حيث عرف التمثيل في بلاد الشام منذ منتصف القرن التاسع عشر، وكانت ترد منها الى العراق فرق تقوم بالرقص والغناء والتمثيل وتقدم المشاهد المسرحية بشكل "ركحي – تمثيلي" فكاهي ملائم لذلك الزمن. بل ان الامر تطور الى المشاهد التراجيدية والتراجيد/ كوميدي بوفود الفرق المصرية، ومنها فرقة جورج ابيض التي حلت ببغداد عام 1926 وقدمت مسرحياتها في ملاهي العاصمة وبعض المدن العراقية، ثم فرقة فاطمة رشدي عام 1929 تبعتها فرقة عطا الله عام 1931 واخيرا فرقة يوسف وهبي عام 1931 التي قدمت العديد من المسرحيات الميلودرامية "مسرحيات الاثارة" ومنها مسرحيات: "اليتيمان، اولاد الفقراء، كرسي الاعتراف، نحن وانتم، الاستعباد..". وما زال كبار السن في العراق يتذكرون عن آبائهم او اجدادهم لازمة يوسف وهبي الشهيرة: "الشرف زي الكبريت.. يوّلع بالنار!".
ماذا نستنتج من ذلك كله؟
حقاً، لقد ساهمت هذه الفرق الوافدة على تكريس مسرح الملاهي في العراق، على اعتبار ان الملاهي العراقية القديمة كانت تتوافر على الحد الادنى من منشآت المسرح وهي: الانارة وصالة الجمهور وخشبة المسرح". فظهر لدينا نجوم الفكاهة الاوائل او "المضحكخانية" بتعبير البغداديين القدامى امثال: جعفر لقلق زاده ونوري ثابت وعبد الله العزاوي وجمعة الشبلي وصفاء محمد علي مع اقرانهم ومريديهم من الشباب. بل ان ظاهرة جعفر لقلق زاده تحديدا الذي كان يقدم نقدا لاسعاً للحكومة الملكية عن طريق الكناية او الاستعارة من عهود الولاة العثمانيين "العصمليين" دفعت الفنان يوسف العاني وزميله الفنان سامي عبد الحميد الى تأسيس فرقتهما الهزلية الشهيرة "جماعة جبر الخواطر" في اواخر اربعينيات القرن الماضي اثناء دراستهما في كلية الحقوق، قبل ان يدخلا معا قسم التمثيل في معهد الفنون الجميلة ضمن فواصل مسرحية "اسكيتشات" بلا مسرح وحياة تزعم انها تمثيل وعروض ترويحية حافلة بالرقص والغناء.
ولكن اذا كان علينا ان نقر بان جماعة الملاهي المسرحية قد قدمت للظاهرة المسرحية في العراق خدمة ملموسة، فإنها قد تحولت على أيدي دعاتها وعشاقها المتفتحي الافق، الى مشاريع لتأسيس الفرق المسرحية الاهلية، وهذا ما دعا الفنان الرائد حقي الشبلي الى تأسيس فرقة تمثيلية عراقية اسماها "الفرقة التمثيلية الوطنية" عام 1927 قدمت العديد من الاعمال المسرحية قبل ان يلتحق بفرقة فاطمة رشدي المذكورة في مصر، بل قبل ان ينضم الى بعثته الدراسية في باريس بسنين طويلة. وهكذا تأسست فرق مسرحية اخرى في الثلاثينات، ومنها "فرقة التمثيلية العربية" برئاسة خالص الملا حمادي ومن جماعتها الكاتب المسرحي الرائد صفاء مصطفى و"فرقة بابل" لنديم الاطرقجي و"فرقة انصار التمثيل" برئاسة عبد العزاوي التي انضم الى جماعتها موسى الشابندر - احد وزراء الخارجية في العهد الملكي – وقدم لها مسرحيته الشهيرة "وحيدة". وما ان تم تأسيس التجمعات المسرحية الجديدة حتى اختفى عمالقة ما بعد الطوفان واختفى معهم غسق العهد العصملي القديم المنبعث من بين الاموات، اي جميع الباشوات والبيكات والأغوات والخطباء واعضاء مجلس "المبعوثان".
ان المجتمع العراقي الملكي وقتذاك، قد ولّد في حقيقته العملية شراحه ونوابه من ألسنة رجاله الحقيقيين، امثال: حسين الرحال ومحمود احمد السيد وحسين جميل وعبد الفتاح ابراهيم وعبد القادر اسماعيل وكامل الجادرجي ومحمد مهدي الجواهري ومن على شاكلتهم، حينما جلس قادته العسكريون الحقيقيون في المكاتب. وكان نوري السعيد ، زعيمه السياسي، بعد ان انغمس هذا المجتمع كليا في النضال وفي الكفاح السلمي الذي يقوم على المنافسة ونسي اشباحاً من عهد آل عثمان القديم.
ثمة اجماع بأن تأسيس معهد الفنون الجميلة ببغداد عام 1940 قد لعب دوراً مهماً في نشر الثقافة الفنية وتخريج اجيال متعددة من الفنانين خلال ما يقرب من ثمانين عاماً. إذ بعد خمسة اعوام من تأسيسه تخرجت اولى الجماعات الفنية من قسم المسرح وقسم الفنون التشكيلية وانتشرت في المدارس الجمعيات الفنية لتقود الحركة الفنية في العراق. وفي اواسط الاربعينيات ومطلع الخمسينيات بدأت بوادر النهضة الفنية في العراق تنشط وتنتعش، فقدمت العروض المسرحية واقيمت المعارض الفنية والحفلات الموسيقية، كما امتد نشاط قسم المسرح والموسيقى الى الاذاعة العراقية.
وحتى ثورة 14 تموز عام 1958 كان قسم المسرح في هذا المعهد ويمتلك اضمامة طيبة من الاساتذة المدرسين الاطفاء، ومنهم حقي الشبلي "رئيس القسم ومدرس التمثيل والاخراج" وصفاء مصطفى "نقد مسرحي" د. احمد شاكر شلال "نقد مسرحي" د. جميل سعيد "ادب عربي" شكري المفتي "لغة عربية" د. علي الزبيدي "تاريخ مسرح وادب مسرح" اسعد عبد الرزاق "تمثيل وتاريخ مسرح" ناجي الراوي "مكياج" ابراهيم جلال "تمثيل واخراج" سامي عبد الحميد "تمثيل واخراج" جعفر السعدي "تمثيل واخراج".
وكانت ثمار هذا التطور ولادة فكرة تأسيس اكاديمية الفنون الجميلة وهي ابنة المعهد الشرعية وغالبية مدرس الاكاديمية هم من خريجي المعهد الذين ابتعثوا الى خارج العراق وعادوا للتدريس في المعهد ثم في الاكاديمية عند تشكيلها عام 1967. اذ كانت الاكاديمية من ثمار وزارة التربية واصبحت بعد ذلك تابعة الى جامعة بغداد، ومنذ ذلك الوقت، بدأ المعهد والاكاديمية بتخريج جماعات فنية متتالية، فانتشرت هذه الجماعات داخل العراق، تعمل في حقل المسرح، والفرق والجمعيات والسينما والاذاعة والتلفزيون ومراكز الشباب والنقابات والمسارح الريفية والتلفزيون التربوي.
وهنا لا بد من التذكير بالعصر الذهبي للجماعات المسرحية في عقود الخمسينيات والستينيات والسبعينيات من خلال ممثليها الكبار: يوسف العاني ورفقته مع ابراهيم جلال وخليل شوقي وسامي عبد الحميد وقاسم محمد وزينب وآزادوهي صموئيل وكاظم حيدر وزكية خليفة وناهدة الرماح وفاضل خليل في فرقة "مسرح الفن الحديث"، وجعفر السعدي وثلته الكبيرة في "المسرح الشعبي" ومنهم اديب القله يجي و وداد سالم وعوني كرومي وهادي الخزاعي وفراس عبد الحميد وثامر الزيدي ونهلة داخل ونضال عبد الكريم. وجاسم العبودي وصحبته بمحسن العزاوي وجاسم شعن وكارلو هارتيون في فرقة "المسرح الحر". وجعفر علي واقرانه وتلامذته امثال قاسم حول ومنذر حلمي ونور الدين فارس وعلي فوزي ناجي واحمد فياض المفرجي ومكي البدري وعادل كوركيس وفيصل المقدادي ومحيي الدين زنكنه في فرقة "مسرح اليوم". ولا يتسع المجال هنا لذكر الجماعات المسرحية التي رافقت بدري حسون فريد في "فرقة الطليعة" او اسعد عبد الرزاق في "فرقة 14 تموز" او سعدون العبيدي في فرقة "مسرح الرسالة" بعد ان قالوا كلمتهم ومضوا، ومنهم من هو ما زال حياً قد لفه النسيان والجحود الرسمي من كافة اجهزة الدولة في عراقنا الراهن "الجديد".
والملفت في الفرق المسرحية التي ذكرناها انها لم تقف عند العروض المسرحية او شواغل التأليف والتمثيل وتقنيات المسرح، بل انبثقت منها جماعات متنافسة وورش وشركات انتاج فنية. فمن فرقة "الفن الحديث" نشأ ستوديو بغداد بادارة ابراهيم جلال وجاسم العبودي لتدريب الهواة من عشاق التمثيل وصقل مواهبهم، وكانت حصيلة هذا الاستوديو عرض مسرحية "المسيح يصلب من جديد" لنيكوس كازنتزاكي واخراج عوني كرومي.
ومن الفرق ذاتها انبثق جيل مسرحي جديد يدعى بتيار الشباب، كان من اقطابه فاضل خليل واسماعيل خليل وغانم بابان وحميد حساني وخليل حركان وآخرين. ومن فرقة المسرح الشعبي تأسست فرقة "مسرح الصداقة" في المركز الثقافي السوفيتي باشراف اديب القله يجي وفرقة "الستين كرسي" بادارة عوني كرومي. ومن فرقة مسرح اليوم انبثقت ورشة للرقص المسرحي بقيادة فيصل المقدادي وشركة للنتاج السينمائي والتلفزيوني برئاسة جعفر علي.
ختاماً، علينا الاعتراف بأننا لم نضمن جماعة الفرقة القومية للتمثيل التابعة لدائرة السينما والمسرح، لأنها من الجماعات الرسمية الفاعلة في نشاط وزارة الثقافة وبالتالي فان دورها يتعارض ويتقاطع وظيفيا مع دور الجماعات المذكورة التي عشنا معها زمناً جميلاً قد لا يتكرر، خصوصا ونحن الآن في مرحلة اليباب المسرحي، ان لم نكن في مواجهة صحراء الربع الخالي!