يمكن للقراءة ان تصنع نصا مجاورا، ويمكنها ان تكون ايضا اكثر فعاليات الاركولوجيا المعرفية دفعا باتجاه الكشف عن ما في هذا النص من نسقيات مضمرة، وان تدفع المقروآت الى الكثير من الاحالات والتوليدات الموجهة، ان كان لحساب الايديولوجيا، او لحساب اللذة او المتعة، او الاكتفاء بتحقيقات الكشف والتعرية بوصفها جزءا من وظائف الخطاب النقدي، واحسب أنّ القارئ في هذا السياق سيكون صنوا للناقد الاركيولوجي، او حتى الناقد الثقافي الذي يعنى بمقاربة فعالية ما تولده الأنساق عبر قراءة النص..
خيري منصور ينطلق من فعل الكتابة عبر تحفيز وظيفة القارئ، اذ يمارس من خلالها فعالية انتاج نص المجاورة، تلك التي تتمثل لوظيفة الحافر، بوصفها من اكثر الوظائف تمثلا للّاقصدية، وحيث تكون القراءة بامتياز المغامرة، وباتجاه اصطناع النص المقروء، بوصفه نصا متجاوزا لنص موضة الفرجة البارتية - نسبة الى رولان بارت - ومجذوبا الى ما يشبه التماهي مع ما يقترحه السيميولوجي الذي يهدف الى "تجسير الفجوة" بالعلامات التي تقترحها تلك القراءة، والتي يتحول القارئ في سياقها وفي اجراءاتها الى مؤلف آخر، لا يكتفي بلذة العرض والنقد، بل بالمشاركة والتنافذ في تكوين نظام من المعاني والصور، تلك التي تقربنا من منطقة ستراتيجية المؤلف واشتغالاته، ومن النص ومساحاته.
"القارئ" خيري منصور، يقترح عبر فعل القراءة صورة اكثر وضوحا للناقد المجاور الذي يؤول، والذي يضع المعنى المقترح قريبا من السؤال، وقريبا الفكرة المضادة للزيف، لذا هو يشحن طقوسية القارئ بنعوت ودلالات هي نقيض لوظيفة الصحفي المعني بالمتابعة، وباتجاه صناعة مجال لهذا القارئ لاستنطاق الحساسية النقدية ذات المقاربات التي تفترضها وظيفة الصحفي القارئ، والتي تؤمّن بحيازتها لتأهيل هذه الوظيفة لتجاوز مهيمنة السطح الصحفي - الاخبار، الاحداث، الصراعات- لان يكون اقرب الى التوصيف الثقافي، اذ يتجاوز فيها الصورة المريبة والغامضة للمثقف المقنع والخفي والمسكون بغواية التأويل الايديولوجي والديني والطائفي والثوري للأحداث، هو في هذا السياق التوصيفي قارئ متعال، وقريب من ادوات الوعي الظاهراتي، لأنه قارئ بأدوات مسكون بالقصدية، تلك التي تبدو غير مؤدلجة، وغير ثورية، لكنها قريبة من الذوق والاستهلاك، وقريبة من الثقافي الداخل في الدرس المعرفي واللساني وحتى السيميولوجي، ولان القراءة التي يمارسها تتخلص من بداهاتها، فإنها تنزع باتجاه انتزاع كشوفات ولذّات ذاتية، لكي يكون فيها خيري منصور مسكونا بسطوة القارئ العمدة بتوصيف ريفاتير، والذي يبدو دائما هو الفاعل الاجرائي والوظائفي، وهذا يعني تعزيز القصدية في القراءة اولا، ووضع المقروء تحت موجهات الاستعمال الذي تفترضه صحيفة يومية او عمود اسبوعي يكتبه فيها ثانيا، حتى وان بدت فعالية القراءة تلك ذاتية جدا، اذ ستكون هذه القراءة ممارسة في التواصل لفعل اللذة، والاشباع، مثلما هي ممارسة مبأرة في التعاطي مع مجالات ثقافية متنوعة، تهدف الى الكشف والتجلي والاضاءة والتوليد، وفي اسناد فعالية القراءة التي تخص تزويد الاخرين بالكثير من الكشوفات البهيجة..
القراءة بطبيعتها وظيفة اسنادية مجاورة ومضيئة للنقد، وان القارئ فيها هو الاقرب الى صاحب "بيت المال" في التاريخ الذي يملك المكتبة والارشيف، والسجلات ويساعد على توزيع الاعطيات واشباع لذات القراء الاخرين.


خيري منصور الشاعر والمثقف يقترح لنا صورة مثيرة وباهرة لهذا القارئ المتعالي، القارئ الاسنادي، الذي يخرجه من المكتبة الى الشارع او ربما الى الرصيف، حيث تختلط الاشياء المعارف، والاشياء الصور، والاشياء الاكاذيب والمصاديق، عندئذ تكون وظيفة القارئ قريبة الى حد كبير من وظيفة التلصص والمراقبة، تلك اللعبة القاسية وغير العادلة..
هذه الوظيفة الثقافية - بتوصيف النقد الثقافي - تتجاوز اية لحظة للاطمئنان، باتجاه ان تكون باعثة على التأمل، وعلى اعادة تشكيل العلاقة مع الكتاب، والجسد والمكان واللذة، تلك التي تدفع الى ان تتركنا عند علامات غير متناهية، بدءا من فقدان الجوار القديم والمطمئن للنعاس عند طاولة السهرة او عند الموسيقى او عند الحشد والجماعة او البيان، او حتى عند الصمت، وانتهاء باقتراح رؤيا للإضاءة كشوفات الثقافي، واعادة النظر الى استراتيجياتها واستعمالاتها، بوصف القراءة استعمالا للنصوص، وترسيما خاصا لعلاماتها وكشوفاتها، وبوصفها ايضا محاولة للسيطرة على الاعتباطي الدوسوسيري، لانها ستقترح حتما حالات لسانية دالة، مثلما تضع قارئ القراءة اضطرارا عند جوارات نصوصية مولدة وضاجة بالمراقبة، والحكي، والمجالية المفتوحة، واحسب ان القراءة النمطية تكتفي بالاستهلاك، دونما اية حيازة للتوليد التي تضعنا عند قراءة القارئ التوليدي خيري منصور..
منذ سنوات طويلة وانا اتابع اعمدة خيري منصور القرائية في جرائد الدستور والقدس العربي وبعض الصحف الخليجية وهو يستقرئ للنصوص او للظواهر، فاجد نفسي مشدودا الى توليدات لغته المتعالية، لغة القارئ المسكون بالتجاوز والمغايرة، والذي لا يؤمن بالمجاورة البريئة مع المقروآت، بل يضع قارئه الاخر عند نص ثقافي وتصويري، يزيل عنه لبس ما يتساقط من القراءة المباشرة، حتى يبدو وكأن المعرفة تحتاج كثيرا للوسيط الهرمونطيقي الذي يزيح المباشر والعمومي الى فضاء له وجهة الدلالة، وله شراهة التوليد..
صورة هذا القارئ العضوي، قد تكون هي ذاتها- من جهة اخرى- صورة المثقف الغرامشوي الذي نستحضره دون ان نراه، لأنه صورة للمثقف، القارئ المتورط بحروب واوهام واخطاء الاخرين، اذ يصطنع- القارئ العضوي- لها تحت اليافطة العضوية المؤدلجة او غير المؤدلجة، خرائط طريق، وكشوفات وتعريفات تساعدهم على منهجة موجهة لفعالية القراءة، تلك التي تحرض او تغوي الى خلخلة دائمة في السياق الاجرائي، والى تلمس ما يشظى من مثيرات القراءة النفسية والفكرية والايديولوجية، بما فيها الكشف عن الحمولات النسقية المضمرة للمعرفة او للثورة او للوعي المفارق، فضلا عن اضاءة الكثير من المناطق المعتمة في الخطاب الثقافي - الادبي والفكري والفني - لا سيما الخطاب المسكون بالكثير من سيميولوجيا الاغتراب الثقافي بالنسبة للقارئ العربي..
خطورة ما يصنعه خيري منصور هي المجاهرة بفعالية القراءة، تلك التي تنوش الحصرم، حتى لا يظل الاخرون تحت كآبة التضريس، مثلما هي قوة معرفية ولسانية للوظيفة التي تبحث عن اشباع استيهامي، وغواية تعويضية تقوم على دافعية اخلاقية او ثورية لصناعة القارئ الصنايعي الذي نفتقده، القارئ الذي يوهمنا بسطوة الحضور الشهواني والعلني للقوة الناعمة للمعرفة، تلك القوة، المفهوم، والقوة، الفأس التي تفكك مفهوم الغابة، وتكرس من جانب اخر وظيفة الدلالة والتعريف، ووظيفة الاختزال، لأنها قراءة تقوم على فعل التوغل في غابة النصوص، وفي عوالم الاخرين الذين يكررون وجودهم في نصوصهم..
قراءات خيري منصور تؤسس وجودها الخارق والمثير، وحتى الاستكشافي على سيمياء النصوص والاسماء والصراعات دائما، وكذلك على ما يتمظهر من الظواهر القارّة في الواقع الثقافي وفي اشتغالاته وتناصاته وعلاقته بالآخر، اذ تجد في تلك النصوص والظواهر مجالا لموضعة الثقافي في سياق اكثر فعالية وتفاعلا من المواجهة، مقابل اسقاطه عند ما يمكن تسميته بالعتبة القرائية، تلك التي تشبه العتبة النصية، والتي تدفع باتجاه ممارسة نوع من "الستربتيز" مع النصوص المقروءة، وحتى الاندفاع باتجاه المزيد من الانكشاف على توليدات توهمنا بوجود مهيمنة النص المتعالي، النص الذي تصنعه القراءة المتعالية ذاتها، اذ لا يوجد نص خارج فعالية القراءة، لان هذه القراءة هي وحدها من يصنع مجد النص، والقارئ المتعالي، القارئ العمدة هو وحده صاحب الاسطرلاب الذي يوهبنا حكمة الكشف الاولي عن حمولات النصوص التي تزدحم من حولنا.

 

عرض مقالات: