في جلسة بفندق داخل العاصمة عمّان كنتُ أتحدث مع الشاعر الراحل عبد الوهاب البياتي رحمه الله، وفي بداية كل سهرة دائماً ما نكون لوحدنا قبل ان يأتي الأصدقاء فأغتنم الفرصة وأدون ما يدور من حديث على لسان البياتي وكانت فرصة ثمينة ونادرة بالنسبة لي كشاب خارج للتو من جحيم الحصار بعد ان وضعت الحروب أوزارها وكنت أسأل البياتي كثيراً عن تاريخه الطويل مع الشعر وترحاله في المنافي لسنوات طويلة وعن علاقته بالسياب ودار المعلمين العالية وأشياء أخرى وكان يجيب بشكل أكثر من رائع ، وفي تلك الجلسة سألته عن حبه الأول وهل وقع بالغرام في بداياته ؟ فحدثني عن فتاة جميلة جداً كانت معه في الصف نفسه بدار المعلمين العالية واسمها "فروزنده" وهي ابنة السفير الإيراني في العراق بتلك الفترة.
تحدث البياتي بلهفة العاشق وتغنى بجمالها ورقتها وأدبها، وفي تلك الأيام كان الحب يسري داخل قلب البياتي مثل شلال ذهبي من شدة جمال فروزنده، وكانت نظراته خجولة تجاهها حتى ان استاذه في الصف واسمه سامي الصفار يراقب نظرات البياتي تجاه فروزنده، كان البياتي يحبها ولكن من طرف واحد ولم يبح لها بحبه! وتعبيراً عن هذا الحب الذي ظل مخبوءاً في قلب البياتي ولم يفشِ سره إلا بعد خمسين عاما وفي تلك الجلسة تحديداً، أفشى بسر هذا الحب عندما وجهتُ له سؤال حبه الأول. فكتب البياتي مجسداً جمالها ورقتها عبر قصيدة ولكن للأسف الشديد ضاعت ما بين أوراقه ومكتبته التي سرقت في بغداد بعد ان ترك العراق آخر مرة عام 1991 وسافر الى أمريكا أيام التحضير للحرب على العراق بعد أن دخل النظام العراقي الى دولة الكويت، ذهب البياتي لتشييع جثمان ابنته "نادية" في امريكا وبعد وصوله اعلن موقفه بالضد من النظام آنذاك وعاد ليستقر في الأردن .
القصيدة ضاعت ما بين أوراق مكتبة البياتي في بغداد، وبعد فترة من الزمن جاء احد أقارب البياتي من بغداد الى عمّان حاملا معه ظرفاً كبيرا فيه بعض الأوراق التي حصل عليها من مكتبته وكانت فيها الكثير من الرسائل والصور المهمة ولم تكن بينها اوراق قصيدة فروزنده الأمر الذي أحزنه كثيراً وقال انه يحفظ البيت الأول من القصيدة فقط وقبل ان يقرأ لي البيت قال ان تجربته مع فروزندة في دار المعلمين العالية كانت عبارة عن حب فاشل لانها من طرف واحد فقط ثم قال البياتي: "عند العودة من حب فاشل، إذ انني كنت اكتشف لم اضع النقاط على الحروف وبخاصة حروف الحكمة والتجربة الانسانية. كان هذا هو العذاب الاول. وفروزندة بعد كل الذي كان هي التي قادتني من نهر نابيس الى الما بين، الى المطهر، ولكنني بقيت في المنفى طوال سنوات حياتي حتى الآن. لقد ارتكبت الكثير مما يرتكبه البشر من علاقات، ولكني لم ارتكب الاعظم، وهو لم اجد نفسي يوماً وأنا اهوي مُقبلاً قدم الآلهة. لقد كانت لي علاقات واسعة اكثر من كل الشعراء الادعياء!" وظل البياتي يتحدث عن فروزنده وأنا أدون البيت الشعري الوحيد من القصيدة التي فقدت ، وهو يصف جمال فروزنده الخلاب والشاهق فحين تدخل الى الحدائق المكتظة بالورود الجميلة تخجل كل الورود من جمالها وتبدأ تلطم اعجابا بهذا الجمال الساحر، في هذا البيت اختصر البياتي كل الأوصاف واختصر القصائد التي لو كتبت عن جمال فروزنده لما وصلت لهذا الوصف البارع، انه بيت من الشعر لكنه يساوي قصيدة كاملة او اكثر. وبعد فترة ظل البياتي يعيش لحظات استذكار جميلة عن حبه الأول الأمر الذي حفزه بان يكتب قصيدة بعنوان "بكائية الى حافظ شيرازي" وكان اهداء القصيدة الى فروزنده، وكانت آخر ما كتبه البياتي في حياته قبيل رحيله عام 1999 ، يقول البياتي في ذلك البيت:
لطم الورد في الحدائق خده
مذ رأى في سمائه فروزنده..

عرض مقالات: