قبل 150 عاماً في 22 نيسان 1870، ولد القائد الثوري والمنظر الماركسي الاكثر شهرة في القرن العشرين فلاديمير إليتش أوليانوف لينين. ولد في سمبريسك الروسية على نهر الفولغا، لعائلة ميسورة، وكان في سن السابعة عشرة حين التحق بحلقة ماركسية. ومنذ لحظة انتمائه الاولى، وجد في الماركسية منهجا ورؤية للحياة والنضال، ولهذا كرس عقود عمره القصير ليقدم قراءته للماركسية، وتبنيه مشروع تحرير الطبقة العاملة وجميع الشغيلة.

بعد اشتداد عوده السياسي والفكري، انتبه الفتى شديد الذكاء الى ضرورة بناء الاداة الثورية لقيادة عمال وشعوب روسيا نحو تحقيق هدف سام هو الاشتراكية، التي وجد فيها البديل التاريخي لتجاوز واقع التخلف والاستغلال وقهر الانسان، الذي كانت تعيشه شعوب العالم كافة.

فقد تلمس عن قرب معاناة عمال وفلاحي بلاده مترامية الاطراف. وأدرك ايضا ان النضال في سبيل تحرير الانسان لا بد وان يكون امميا، انطلاقا من ان المستغلين والمهيمنين يواجهون شعوب الارض متحدين. فكان لينين أفضل من قدم بملموسية عالية قراءة جوهرية لأممية معلميه الكبيرين كارل ماركس وفرديك انجلس. ووفق تلك القناعات قدم لينين، مستندا الى التطور المتحقق في عصره علميا واجتماعيا، مجموعة من المؤلفات والبحوث والمقالات والخطب، التي لا يزال الكثير منها يتمتع براهنتيه واهميته. ولا يقلل من شأن ذلك ماشاخ منه ومحاولات البعض ليّ عنق تراث لينين الفكري والسياسي في سياق سعيهم لتثبيت سلطتهم، الامر الذي قاد التجربة الاشتراكية التي وضع لينين حجرها الاساس، بين أسباب اخرى كثيرة، الى الضعف والمراوحة والانهيار.

تعرض لينين عدة مرات للاعتقال والنفي، وكان اعتقاله الأول بعد تأسيس "رابطة سان بيترسبورغ للنضال من أجل تحرير العمل" ثم نفي إلى سيبيريا حيث قضى ثلاث سنوات في المنفى. وفي ظروف من السرية أكمل مؤلفه الكلاسيكي "تطور الرأسمالية في روسيا". وسرعان ما التحقت به كروبسكايا التي كانت كادرا سياسيا رئيسيا في منظمة بترسبورغ، ومنذ ذلك الوقت واصلا العمل معا كرفيقين وزوجين حتى وفاته سنة 1924.

في عام 1900 ونظرا لواقع القمع في روسيا، أصدر لينين جريدة الإيسكرا في ألمانيا، بمشاركة ليخانف وماركسيي روسيا الأوائل. وبعد ها انتقل الى لندن في عام 1902.

وفي لندن ساهم بشكل كبير في التحضير للمؤتمر الثاني لحزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي، الذي يعد ه الكثير من الباحثين المؤتمر التأسيسي للحزب. وصاغ لينين مشروع برنامج الحزب، الذي حظي بدعم اكثرية المندوبين، ولكن المؤتمر الذي بدأ اعماله في بروكسل واختتمها في لندن، شهد بداية الانشقاق التاريخي في حزب العمال الاشتراكي الروسي الى اكثرية (بلاشفة) بقيادة لينين، واقلية (مناشفة) بقيادة مارتوف. وكانت مجريات المؤتمر البداية الحقيقية لنشوء الحزب الطليعي من الطراز الجديد.

جاءت الأحداث الثورية لسنة 1905 لتؤكد المواقف التي شدد عليها لينين، خصوصا الدور الثوري والمستقل للطبقة العاملة، أو بلغة اليوم جذرية برنامج الحزب وممارسته النضالية. فخلال مجرى الثورة قام العمال بتكوين مؤسساتهم النضالية في شكل مجالس سوفييتات، مثلت جنين السلطة العمالية. وخلال 12 شهرا قادت الحركة الثورية موجة كثيفة من الاحتجاجات والإضرابات العامة، واستولت على مرافق حيوية للدولة. وبعد تراجع الحركة الثورية بفعل القمع الهمجي الذي أسفر عن مقتل الآلاف من العمال والعشرات من الكوادر الثورية، واعتقال الآلاف منهم ونفيهم، اضطر لينين في سنة 1907 إلى اللجوء إلى المنفى في الخارج. ومع ذلك فقد اعتبر لينين ثورة 1905 بمثابة "التمرين". فبدون تلك التجربة ما كانت ثورة أكتوبر 1917 لتكون ممكنة.

ومثلت الحرب العالمية الاولى 1914 – 1918 منعطفا تاريخيا مهما، ليس فقط في تطور الصراع في العالم، بل وفي تطور رؤية ومواقف أنصار الماركسية داخل وخارج روسيا. حيث كشفت الحرب زيف التبريرات الوطنية والقومية لتسويقها وأظهرت طابعها العدواني. وكانت فرصة مهمة جدا لتقديم رؤية ماركسية لقضية الحرب والسلام، انطلاقا من عدوانية دعاة الحرب ووحشيتهم من جهة، ومن ضرورة بلورة رفض للحرب قائم على قراءة طبقية واممية واضحة، بعيدا عن التبريرات الساذجة التي دفعت قيادات الأممية الثانية الى الاصطفاف مع حكومات الحرب، بالضد من مصالح الطبقة العاملة وشعوب بلدانهم، وبهذا الحقوا ضررا كبيرا بمصداقية المشروع الاشتراكي وامميته.

كان الموقف من الحرب نقطة تحول في مسار أنصار الماركسية. وقد استطاع لينين ورفاقه داخل وخارج روسيا القيصيرية، اعادة صياغة مشروعهم. وفي الداخل الروسي التقطت عبقرية لينين الفذة اللحظة التاريخية لتحقيق الانتصار 

ولا جدال بين المؤرخين والباحثين في ان ثورة اكتوبر 1917 هي الانجاز العملي الاكبر في حياة لينين، الذي اثبت بالممارسة ما اشار اليه في كتاباته، من أن الحرب تمثل عشية الثورات. فقد اجتاحت روسيا موجة ثورية بين شباط وتشرين الاول (اكتوبر) 1917، استطاع الحزب البلشفي بزعامة لينين ان يتوّجها بانتصار اول ثورة اشتراكية في تاريخ العالم الحديث.

لقد كان دور لينين الشخصي في 1917 حاسما، وكان مشاركا يوميا في الصراع ودارسا عبقريا لتحولاته، محددا لوحة توازن القوى الاجتماعية التي افرزتها التطورات المتسارعة. واستطاع بحسه العبقري تحديد اللحظة التاريخية لانتصار الثورة، وبالتالي يمكن القول انه ما كان لثورة اكتوبر ان تنتصر وتغير وجه العالم، لولا وجود قائد فذ من الطراز الذي كان عليه لينين. وهذه لا يعني اغفال دور حزب البلاشفة التاريخي، وجميع القوى التي ساندت وشاركت في الانتصار، ولا الظرف الموضوعي الذي شكل الارضية الاساسية لانتصار الثورة.

لقد استطاع لينين بصبره ونفاذ بصيرته اقناع جمع من رفاقه في قيادة الحزب راهنوا على فكرة التعاون مع الحكومة المؤقتة. وكانت الجذرية والوضوح اللذان تحلا بهما لينين في السنوات الاولى لبناء التجربة الضمانة القوية لاستمرارها.

وبعد نجاح الثورة وحسم الطبقة العاملة مسألة السلطة، تقلد لينين مهمة رئيس مجلس مفوضي الشعب وبقي يؤديها حتى وفاته سنة 1924. وخلال هذه السنوات خاض نضالا دائباً لبناء أول دولة اشتراكية في التاريخ، سواء ضد قوى الثورة المضادة الداخلية وضد الإمبريالية ومختلف الصعوبات التي واجهت الدولة الفتية، أو ضد البيروقراطية التي كانت قد بدأت تحاول تشويه التجربة واغتيال الثورة.

اليسار العالمي وإرث لينين

نحتفل بالذكرى اليوبيلية الـ150 لميلاد لينين بعد مرور 30 عاما على انهيار التجربة الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي وبلدان اوربا الشرقية، وفي عالم تغير فيه الكثير، مقارنة بالسنوات التي ناضل وبنى فيها لينين تجربة الاشتراكية الأولى. عالم تستمر فيه الاحزاب الشيوعية، وقوى اليسار الجذري بنضالها في ظروف صعبة: فحروب تدمير الدول الوطنية مستمرة، والرأسمالية تعمل على اعادة انتاج نفسها ، على الرغم من انكشاف زيف كذبتها الكبرى بشأن "نهاية التاريخ". فيما قوى اليسار بشكل عام في موقف دفاع، وفي اوربا موطن الاشتراكية الاول يعاني الكثير من قوى اليسار صعوبة الوصول الى الى اجابات شافية على ظاهرة صعود قوى النازية واليمين المتطرف، التي اصبحت اليوم تمثل خطر جديا لا على الشيوعيين واليساريين فحسب، بل على قضية الديمقراطية والتقدم في عموم العالم.

 وقد دعا كتاب وباحثون للعودة الى تراث لينين وتقصيه مجددا، بما يتلائم مع المتغيرات والحاجة الموضوعية. وهناك الكثير من المنطلقات والرؤى في تراث لينين، التي يمكن ان تكون معينا مهما على طريق طرح البدائل المطلوبة.

لقد مثل رفض لينين للحرب بشكل ملموس وبعيدا عن العمومية بوصفه اياها حربا امبريالية، وانها "حرب مالكي العبيد" جعل هذا الوصف يتمتع براهنيته حتى الآن، ولا يمكن تجاوزه. وبالنسبة لبلدان الشرق الأوسط في الظرف الراهن يتمتع الموقف اللينيني من الحرب بأهمية استثنائية.

ولقد اهتم لينين في سنوات المنفى واحتدام الصراع باسئلة الفكر والفلسفة، وكانت الحقيقة بالنسبة له دوما ملموسة، وانتبه لاهمية التهيؤ فكريا لما يمكن ان يحدث. ويؤكد هذا اهمية العمل الجاد ذاتيا وفي اطار الحركة على تطوير الرؤية الفكرية وخلق الوضوح المطلوب، فبدون ذلك لا يمكن الحديث عن سياسات وتكتيكات تقود الى النجاح.

وفي متابعته للتحولات السلبية في الاممية الثانية، أصر لينين على ضرورة بلورة المشروع البديل الجامع والمرتكز على رؤية اممية، مع تحليل عميق للصراعات الاجتماعية في تعددها وترابطها. واليوم ومع الانفتاح وتعدد القراءات، يصبح البحث عن مشروع اليسار المشترك محليا وقاريا وامميا ضروريا هو الآخر.

وهناك قضية اخرى يمكن فيها الرجوع الى لينين، وهو سؤاله المعروف: "ما العمل"، الذي ربطه بآليات التنفيذ، في إطار امكانيات مفتوحة ومرنة لا تكتفي باستنساخ التجارب القائمة، ولا تمنح التفاصيل صفة المطلق او تضع الاوراق في سلة واحدة.

لقد كان لينين يستند في افكاره الى مطالب الجنود، والعمال، والفلاحين، وممثلي الشعوب المضطهدة في روسيا: "كل السلطة للسوفيتات" و"اسقاط الحكومة المؤقتة"، "السلام غير المشروط فورا"، "الإدارة الذاتية للعمال"، "حق تقرير المصير"، وغيرها من الشعارات. وعمل وفق قراءة تقوم على تصعيد وتعميق التناقضات والتقدم الى امام، واستبعد فكرة اصلاح الرأسمالية، وراهن على الحسم في طريقه الى ا ستلام السلطة.

لا يستطيع الشيوعيون واليساريون اليوم، ولا ينبغي لهم استنساخ لينين. ولكن يجب عليهم ان  يتعاملوا مع الاسئلة التي يطرحها الواقع، مستندين الى الجوانب المضيئة في ارث من سبقهم.

ولينين يقف في المقدمة على كلا صعيدي الاستراتيجية والتكتيك.

عرض مقالات: