لو أردنا الحديث عن تأريخ منهجي للحركة العمّالية والحزبية وكذلك للمجتمعات الفلاحية في سورية، فلا بدّ من العودة إلى مؤلّفات المؤرّخ والباحث عبد الله حنا، الذي رحل أول من أمس الاثنين، في ألمانيا، عن واحد وتسعين عاماً، بعد حياة حافلة بالتأليف والتفكُّر في هذا المجال، فضلاً عن انخراطه المباشر في العمل السياسي والحزبي، ورحلة طويلة في التعليم بمدارس سورية.

وُلد الراحل في قرية دير عطية قرب دمشق عام 1932، وتدرّج في تعليمه حتى حاز إجازة في التاريخ من “جامعة دمشق” عام 1958. وبِحُكم نشاطه في الحزب الشيوعي السوري - اللبناني، خلال فترة الوحدة السورية المصرية، لُوحق وضُيّق عليه فغادر البلاد إلى ألمانيا الشرقية، وفي مدينة لايبزغ حصل على دكتوراه في التاريخ من “جامعة كارل ماركس” عام 1965، عن أطروحته الموسومة بـ”حركة التحرّر العربية في بلاد الشام في مستهل القرن العشرين”.

رغم تحصيله الأكاديمي العالي، فإن السلطات البعثية لم تفتح له أبواب الجامعات عند عودته إلى سورية، ذلك لخلفيته السياسية اليسارية، ما اضطرّه للتعليم في الثانويات متنقلاً بين عدة مناطق من دمشق وريفها إلى مدينة درعا جنوبي البلاد، كما عمل في المعهد التابع لاتحاد نقابات العمّال في دمشق، موثّقاً لتاريخ الأرياف السورية في المرحلة بين القرنين التاسع عشر والعشرين. أما عمله مدرّساً فاستمرّ به حتى عام 1987، حين تقاعد وتفرّغ للبحث والكتابة في التاريخ.

توجَّهت اشتغالاته المعرفية، أولاً، صوب التيارات السياسية في البلاد، من خلال كتابه “من الاتجاهات الفكرية في سورية ولبنان: النصف الأول من القرن العشرين” (1973)، وفيه أضاء الخلفية المدنية في سورية والتي بدأت ملامحها مطلع القرن في أواخر الحكم العثماني، واستمرّت خلال الاستعمار الفرنسي، وانتعشت في سنوات ما بعد الاستقلال. وفي العام نفسه أصدر كتابه “الحركة العمالية في سورية ولبنان 1900 - 1945” (1973)، مؤكّداً المنهجية الماركسية التي لا تفصل السياسة عن الاقتصاد؛ حيث نظر في عمله هذا بعلاقة العمال بـ”الكتلة الوطنية” وبـ”عُصبة العمل القومي” وبالحكومات السورية المتعاقبة، وكذلك بالقوانين والتشريعات التي صدرت وتمسّ العمال بشكل مباشر.

ومنذ عقد الثمانينيات بدأ يصبّ اهتمامه البحثي على الثورات والحركات العامّية (نسبة إلى العامة) في المجتمعات الفلّاحية، مُعتمداً في ذلك على المرويّات والتاريخ الشفوي، وضمن هذا الإطار وضع مجموعة مؤلفات شملت مناطق مختلفة من بلاد الشام، منها: “القضية الزراعية والحركات الفلّاحية في سورية ولبنان” (1975)، و”تحرّكات العامّة الدمشقية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر: نموذج لحياة المُدن في الإقطاعية الشرقية” (1985)، و”العامية والانتفاضات الفلاحية في جبل حوران 1850 - 1918” (1990).

ومع تقدّم المسألة الديمقراطية في الساحة السياسية العربية، أواخر القرن الماضي ومطلع القرن الحالي، إضافة لما شهدته بلدان عربية من حراكات في هذا السياق، كان لعبد الله حنا مساهمات فكرية أضاءت جوانب من التراث المدني مثل كتابه: “المجتمعان الأهلي والمدني في الدولة السورية الحديثة 1850 - 2000” (2001).

يُذكر أنه في العقد الأخير، قدّم الراحل ثلاثة كتب صدرت عن “المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات” في الدوحة، مُستعيداً فيها الإطار العام الذي ظلّ يشتغل عليه طيلة مساره البحثي، ويتمثّل في تقاطع الأحزاب والحركات الاجتماعية. وهي: “المُرشدية في محيطها العلوي وأجواؤها السياسية والاجتماعية 1923 - 1946” (“دفاتر أسطور”، 2015)، و”صفحات من تاريخ الأحزاب السياسية في سورية القرن العشرين وأجواؤها الاجتماعية” (2018)، وفيه تناوَلَ المؤشّرات الاجتماعية التي أفضت إلى الثورة السورية عام 2011، واعتبرها نتيجة للتطوّرات الجارية في سورية في النصف الثاني من القرن العشرين، و”صور من حياة مجتمعات سورية القرن العشرين (جمعها الدارسون في “المعهد النقابي” بدمشق” (2019).

ـــــــــــــــــــــــــــــ

العربي الجديد” - 8 تشرين الثاني 2023