“ان تاريخ كل مجتمع الى يومنا هذا لم يكن سوى تاريخ الصراع بين الطبقات. الحر والعبد، النبيل والعامي، الإقطاعي والقن، المعلم والصانع، أي باختصار المضطهِدون والمضطهَدون، كانوا في تعارض دائم، وكانت بينهم حرب مستمرة تارة ظاهرة وتارة مستترة، حرب كانت تنتهي دائما اما بانقلاب ثوري يشمل المجتمع بأسره وأما بانهيار الطبقتين المتصارعتين معا” (البيان الشيوعي – كانون الأول 1847 – كانون الثاني 1848).
“منذ ما يقرب من أربعين عاما، أكدنا على الصراع الطبقي باعتباره القوة الدافعة المباشرة للتاريخ ، ولا سيما الصراع الطبقي بين البرجوازية والبروليتاريا باعتباره الرافعة الكبرى للثورة الاجتماعية الحديثة ... لقد صغنا صرخة المعركة صراحة: يجب ان يكون تحرير الطبقة العاملة من صنع الطبقة العاملة بالذات». (رسالة تعميم الى أوغست بيبل وولهلم ليبكنخت وولهلم براكه وغيرهم – 17/18 ايلول 1879).
رغم استمرار مواجهة الحركات الاجتماعية في القرن التاسع عشر للإقصاء والقمع على نطاق واسع، إلا ان مساحة فاعليتها السياسية كانت تتفتح بعدة طرق. فقد توسعت حركات الإصلاح للطبقة الوسطى، وقدمت بعض أشكال التعاون والتعاضد للحركات العمالية، بل تبنت أحيانا كلمة “الاشتراكية”. وكان ماركس قد خصص مساحة في (البيان الشيوعي) لنقدها. في بعض الأحيان، حاولت أقسام من الطبقة الحاكمة نفسها خلق أشكال من التعبئة الشعبية سعياً وراء أهدافها الخاصة: في بريطانيا، سعت رابطة مكافحة قانون الحبوب الى الحصول على دعم شعبي للتجارة الحرة، وفي فرنسا شارك لويس بونابرت في حملات شعبية متتالية - حتى انقلابه في ديسمبر 1851. ونجحت الحركة الاجتماعية نفسها، بالتحالف غالبا مع أقسام من الطبقة الحاكمة، في تحقيق بعض الإصلاحات الاجتماعية، والحد من توظيف النساء والأطفال في المناجم والمصانع، ووضع حدود عامة لساعات العمل في المصانع... إلخ، حتى ان ماركس خصص فصلا رئيسيا عن الصراع على وقت العمل في رأس المال.
لم تكن إجراءات الإصلاح الاجتماعي سوى جزء من عمل واسع النطاق للدول في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ففي ستينيات القرن التاسع عشر خضعت جميع الدول الكبرى، التي ستهيمن على السياسة العالمية في القرن العشرين، لعمليات إعادة بناء مهمة. وربطوا أنفسهم جميعا بقوة أكبر لتوسيع وتشجيع تراكم رأس المال، وبأشكال أكثر مركزية ممن يتصدر العالم الرأسمالي آنذاك، بريطانيا. وتمكنت هذه الدول من تعزيز قدراتها الإدارية ومن تحسين عمليات جمع المعلومات والتدخل بطرق أكثر مباشرة في الإدارة اليومية لمجتمعاتها. وقامت، في ذات الوقت، بمنح التراخيص لبعض الحركات الإجتماعية والهيمنة عليها من خلال تحديد نطاق عملها. فأصبح التداخل بين “الدولة” و”الحركة الاجتماعية” أكثر وضوحا، وبنفس الشكل تأسست منظمات “دائمة” للحركات الإجتماعية.
كان لابد لمثل هذه التطورات أن تجعل “الحركة الاجتماعية” ظاهرة أكثر تعقيدا وتناقضا. إن نشوء منظمات دائمة، بهذا القدر أو ذاك، أدى الى ظهور فئة كبيرة من “المحترفيين” Professional، تضم أعضاء في البرلمان وأعضاء في المجالس المحلية ومسؤولي النقابات والقادة مدفوعي الأجر لمجموعة من الهيئات ذات الإهتمامات الخاصة (بما في ذلك ما سيطلق عليه لاحقا “المنظمات غير الحكومية”) وجماعات الضغط وغيرهم. وبالنسبة لهذه الفئة كان قيام الدولة بمنح التراخيص لمنظمات الحركة الإحتماعية يمثل مسارات وظيفية جديدة. أي انها اصبحت تمثل تجسيدا حيا لما طرحه ماركس وإنجلز، في القرن التاسع عشر، حول ميول هذه الحركات نحو البرجوازية الصغيرة. لهذا السبب، كما تذكر الباحثة كارول جونسون في كتابها الموسوم (مسألة الإصلاح ونظرية ماركس حول الصنمية 1980) نجد ان شخصيات من أمثال روزا لوكسمبورغ أو المنظر النقابي دانيال ديليون قد انتقدا بشدة هذه الفئة وهذه الظاهرة، في حين، كما يذكر الباحث كولن باركر في كتابه الموسوم “روبرتو ميشيلز واللعنة القاسية” - 2001 اعتبرها الفاشي الإيطالي روبرتو ميشيلز أداة ثابتة بشكل دائم يتم من خلالها تثبيط الأحلام الراديكالية للاشتراكية. من الواضح أن ظهورها وتأسيسها طرح مشاكل جديدة لمنظري الصراع الطبقي والحركة الاجتماعية. وهذه المشاكل سوف يتردد صداها على مدى طويل.
بعض الأسئلة العملية والنظرية الكبيرة جدا تتطلب إجابات. ما هي الحركات وما هي إمكاناتها لتغيير المجتمع؟ هل يجب دائما “دمجها” بطريقة ما في النظام الحالي لرأس المال والدول؟ إذا كان “مجتمع الحركة الاجتماعية” يلوح في الأفق، كما يدعي الباحثان ديفيد ماير وستانلي تارو في كتابهما الذي يحمل ذات الاسم 1998، فهل يجب أن يظل دائما مقيدا، على الرغم من كل انفتاحه الواضح وتدفقه، بضرورات تراكم رأس المال التنافسي والمنافسات بين الدول؟ وفي ضوء ظواهر الحياة الجديدة من أزمة بيئية واحتباس حراري وغيرها هل لا تزال هناك احتمالات لتحقيق الرؤية الماركسية - وإذا كان الأمر كذلك ، فكيف؟