“واحات ثقافية” هي سيرة ذاتية وغيرية للكاتبة يمنى العيد تسرد فيه “سِيَر” عديد من المثقفين والمثقفات والمبدعين والمبدعات العرب، ممن التقتهم أو تعرفت إليهم في أنشطة ثقافية متنوعة، أسهمت في تشكيل سيرة يمنى المعرفية والأدبية، بل هي أشبه بسيرة لهذه الأنشطة التي جمعت يمنى العيد بعمالقة الشعر والأدب والمسرح، بحيث يصعب الفصل بين ذاكرتها الشخصية وذاكرة الأدباء والمثقفين، كما ذاكرة الأمكنة التي ضمت هذه الأنشطة.
كتاب فريد من نوعه في أدب السيرة، لا يشبه أي كتاب تناول السيرة الذاتية أو الغيرية، خطته يمنى العيد بقلمها وزخر بعديد من الحوارت الأدبية والنقدية والفكرية العميقة، فضلاً عن لقاءات شخصية خاصة عمقت حسها الإنساني ومخزونها المعرفي على السواء، في خضم بحثها عن جمر الحقيقة مع هؤلاء، الذين رحلوا عن حياة حافلة بالآلام والمشاق، تاركين إبداعاتهم أمانة في أعناقنا جميعاً، أو أولئك الذين ما زالوا على قيد الحياة يكابدونها إن عيشاً صعباً أو تساؤلات وجودية لا أجوبة لها، أو إبداعات لا تزال تحفر عميقاً لإثراء الثقافة ببعديها العربي والإنساني.
تميز كتاب “واحات ثقافية” الصادر حديثا عن دار الفارابي، بأسلوب فريد وبنية فنية بديعة وسلسة، لسيرة ذاتية شخصية امتزجت مع سيرة غيرية لمثقفين عرب كتبتها يمنى العيد كلحظات لا تنسى، وها هي اليوم تشاركها مع قرائها كمن يحتفي بهؤلاء وبزبدة ما بلغوه من إبداع، لتروي لحظات مفصلية في حياتها وحياتهم. وبلغة رقيقة سردت هذه اللحظات التي تحمل مخزوناً معرفياً وأدبياً راقياً ممزوجاً بالظروف الشخصية التي عاشها هؤلاء المبدعون/ات، وحملت كثيراً من المعاناة كالسجن والنفي والمرض وتكسر الأحلام وخيبات الأمل والاغتيال.
لقاءات وذكريات
تستهل يمنى العيد “واحات ثقافية” بلقاءات جمعتها أكثر من مرة بالناقد الكبير إحسان عباس، وتبدأ من حادثة اعتقالها في مطار تونس عام 1978 للمشاركة في ندوة كممثلة عن اتحاد الكتاب اللبنانيين، خضعت للتحقيق من غير تهمة واضحة لمجرد أنها قادمة من لبنان، باعتقادها، وما لبثت أن وقعت في مصاعب أخرى، إذ حين أخلي سبيلها، اصطحبها سائق التاكسي إلى أحد الفنادق المتواضعة الأجر، فوجدت نفسها في غرفة مزرية تفوح منها رائحة العطونة، انتظرت منهكة طلوع الصباح حتى تغادر إلى القيروان.
تتكثف الذاكرة حين تتحدث يمنى العيد عن إحسان عباس، ويمتزج خجلها ككاتبة في بداية طريقها، بلطفه ودماثته، بل بسعة معرفته وجرأته العلمية التي تحدت المسلمات المنهجية، حين انتصر للشعر الحديث، وهي وإن اعتبرت أنه أكثر من يستحق أن يطلق عليه كلمة” الكبير” فلأنه انتصر للجمال وإمكانات جديدة للإبداع في مواجهته الجسورة لسلطة المنهج.
حدث شيء شبيه وإن كان في ظروف مختلفة مع محمود درويش الذي عشقت شعره وتحولاته الفنية والفلسفية، أيضاً مع المفكر حسن حمدان الملقب بـ”مهدي عامل” الذي خرج على صنمية التأويلات للنزاعات والحروب في ما أطلق عليه “تضليلاً “ الحرب الطائفية في لبنان، فهذا المفكر الطليعي اعتبر أن تلك الحرب في حقيقتها هي حرب طبقية سياسية توارت خلف نزاعات طائفية، تم الترويج لها من أمراء الطوائف الذين هم في جوهرهم الحقيقي، تجسيد فاقع للرأسمالية ولكن بأقنعة مختلفة، يمنى شاطرته الرأي بقوة حينذاك، على رغم كل الصدامات التي خاضها حتى مع رفاقه الشيوعيين، تكتب عنه بحرقة وهي تروي المآل الذي أودى بحياته اغتيالاً، لقد دفع حياته ثمناً لآرائه وهو يواصل إزاحة اللثام عن جوهر الطائفية، بوصفها نزاعاً سياسياً أصيلاً ينتمي الى النضال ضد الرأسمالية.
مبدعون ووقائع
وقائع عديدة أوردتها يمنى العيد في كتابها “واحات ثقافية”، وحوارات وأفكار تفاعلت فيها مع هؤلاء الراحلين المبدعين والمبدعات، وإن بصفحات قليلة خصصتها لكل منهم/ن، وغاية في الكثافة، على أمل أن تفضي محاولات هؤلاء الراحلين إلى مكان ما في زمن ما للأجيال المقبلة.
هذا النص الفريد والبسيط والمبدع ينتمي حقاً إلى أدب السيرة، وتطغى عليه لغة رقيقة مبدعة بسهولة ويسر، وإن كانت تتحدث عن الشعر أو الرواية أو السيرة الشخصية لهذا المبدع أو ذاك، وتلمس برقتها شغاف القلب، حتى حين تتحدث عن إشكالات فكرية فلسفية عميقة، كما في حالة محمود أمين العالم، هذا المثقف الإشكالي بحسب الأديب والناقد المصري سيد بحراوي، “لم يتزحزح عن رؤيته النقدية بوصف الأدب انعكاساً للواقع الاجتماعي، بل حاول اكتشاف البنية الفنية والقيمة الجمالية للإبداع الروائي في ارتباط حميم بالرؤية الدلالية الاجتماعية”. هذه الرؤية التي كادت ممارسته النقدية الأولى تقتصر عليها، بحسب قوله في أحد اللقاءات الثقافية التي جمعتها به في القاهرة، وتعلق قائلة على هذه الواقعة “أدهشتني يومذاك حيوية هذا المفكر وهو يحاور ويناقش، ولفتتني ابتسامته وكأنها تعبر عن سعة صدره وترحيبه بالنقاش، تلك الابتسامة التي سأله محمود درويش عن سرها، فقال “شاغبوا تصحوا”.
وتذكر يمنى كيف ترفع عن كره توجب أن يسببه سجن عبد الناصر له لخمس سنوات، عانى فيها صنوفاً من التعذيب لا تخطر في بال، كان من الطبيعي أن يكره عبد الناصر لكنه لم يكرهه، بل أحبه لما رأى فيه من شجاعة المواجهة الشرسة مع الولايات المتحدة الأميركية، واستعانته بالاتحاد السوفياتي في بناء السد العالي، أحد أهم إنجازات عبد الناصر في بناء مصر.
لقاء باريسي
وكانت يمنى التقت محمود أمين العالم مع مجموعة من المثقفين العرب في مقهى باريسي في شارع سان ميشال، وخرجت من اللقاء الودي مندهشة ومبتهجة بهذا العالم الفيلسوف، الذي لم تكن تعرفت إليه قبل ذلك.
ترك هذا اللقاء بالعالم في يمنى العيد، أثراً لم يمح في روحها وذاكرتها، وتركها أسيرة الثراء الفكري الذي امتاز به العالم وشخصيته الثقافية المدهشة، ومضت يمنى على إثره تسير في شارع سان ميشال شبه شاردة، تحاول أن تعود لذاتها وتستعيد سعادتها بحصولها على موافقة أستاذها على أطروحتها عن “الدلالة الاجتماعية لحركة الأدب الرومنطيقي في لبنان” التي أضاعت نسختها المطبوعة تلك الليلة، وما لبثت أن وجدتها عند كشك لبيع الكتب كانت مرت به، هدفت دراستها حينذاك إلى “قراءة أثر الواقع الاجتماعي في تشكل البنية الفنية، بهدف تجاوز مفهوم الانعكاس الذي اعتمده النقاد الماركسيون العرب، وأدى بمعظمهم إلى الوقوع في ثنائية الشكل والمضمون”.
رضوى عاشور الكاتبة الروائية المبدعة التي حملت لها في قلبها محبة كبيرة نالت حصتها من الاحتفاء في “واحات ثقافية”، تتذكر يمنى الاحتفال بعودة عاشور من رحلة العلاج في الغرب في مسرح جامعة عين شمس في القاهرة في آذار 2014، وتستعيد بعضاً من خطابها في تلك المناسبة تقول فيه “من أنت يا رضوى، ومن أين جئت؟ آمنت بالثورة، وعملت لأجلها كي تكون مصر، تلك الأنثى الأم، أماً لنا جميعاً؟ رضوى التي كانت تعرف حقيقة وضعها الصحي، وتخاف لا من موتها، بل من الموت بأقنعته العديدة، التي منها الوأد، وأد الأنثى التي تنتمي إليها بصفتها امرأة عربية ومواطنة من العالم الثالث”.
نالت أيضا الراحلة لطيفة الزيات صاحبة “الباب المفتوح” حصتها من الذاكرة في احتفالية تكريمها في مدينة أغادير في المغرب، كما نالها آخرون لا تستطيع هذه المقالة الخوض في سيرتهم الممتزجة بسيرة يمنى العيد الشخصية والثقافية، أو سيرة اللقاءات التي جمعتها بهؤلاء المثقفين، وأماكنها وتواريخها، الذين باستعادتهم من أرض الذاكرة، وضعت يمنى شكلاً جديداً متعدد الأجناس من أدب السيرة، فالكتابة هنا ليست عملاً توثيقياً لما حواه النص من تخييل في مواضع عدة، فهي كتبت مثلاً بحنان بالغ عن يعقوب الشدراوي، المخرج المسرحي اللبناني الأصيل، الذي توارى بعد يأسه من تنفيذ مشروع حياته في خلق مسرح وطني يؤدي فيه الشبان والنساء والعمال نصوصاً عالمية وعربية ووطنية محلية “ويفتح أبوابه للناس لا للنخبة”، وتمكنت من خلال سبرها المكثف لسيرة الروائي المصري إبراهيم أصلان وكل من شاركوها في لقاءات ثقافية ولحظات صادقة ممن كتبت عنهم، أن تكتشف ذاتها وتتعلم وتتذكر ما لا يمكن نسيانه.
أما الطيب الصالح الكاتب الروائي السوداني صاحب “موسم الهجرة إلى الشمال” فقد نال حيزاً من”واحات ثقافية”، كما غالب هلسا بسيرته المؤلمة والثرية في آن، وكثر غيرهم ممن تمزقت حياتهم، بين برد السجون وصقيع المنافي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
“اندبندنت عربية” – 1 شباط 2023