تعرضت قوى اليسار، على مدار عقود طويلة، الى هجوم ثقافي متواصل، إستهدف منظوماتها السياسية والفكرية والثقافية، بمختلف الأساليب، وفي أوقات وأمكنة كثيرة، وبمشاركة أطياف اليمين، الممتدة من أكثرها إعتدالاً حتى أكثرها تطرفاً وغلواً، وساهمت فيها حكومات ومؤسسات ومفكرين، وأستهدفت الهيمنة على المجتمع وقيمه ومعتقداته وممارساته السياسية والاقتصادية.

وطالما كشفت تقارير عديدة عن قيام أجهزة المخابرات، وخاصة الأمريكية منها، بجهد نظري وعملي كبير، لتهميش المثقف العضوي في العالم، وإعلاء شأن المنفصلين عن واقع شعوبهم والسابحين في ذواتهم، من المتشائمين وناشري أفكار الإحباط والمبشرين بقيم “الحضارة” الأمريكية. وتمثل هذا الجهد وعبر التاريخ المعاصر بإنشاء العديد من المؤسسات “الثقافية” ودعم الأنشطة الفنية والإبداعية المناسبة وصناعة كتّاب وتنظيم مؤتمرات أدبية وفنية وتمويل مهرجانات وجوائز ومقاعد دراسية ودور نشر عالمية وغيرها. 

وإستهدفت هذه الأنشطة بشكل أساسي المفكرين والمبدعين الشيوعيين، فسعت لعزلهم وحجب نتاجاتهم وتشويه مواقفهم الحقيقية من القيم الروحية والإجتماعية. كما إستغلت هذه المؤسسات الأخطاء التي وقعت بها الأنظمة الأشتراكية، وسعت لتوظيف إنهيار هذه الأنظمة في الهجوم على الماركسية وتبييض صفحة اليمين واليمين المتطرف وحتى الفاشية والنازية، بشكل شبه مباشر.ا

الليبرالية الجديدة

لقد تمّيز نهج الليبرالية الجديدة عن ماسبقه، بوقاحة غريبة وديماغوجية مقززة، حتى أُعتبر هجومها الثقافي الطور الأحدث للحرب ضد اليسار. فالى جانب تبني سياسة الكيل بمكيالين في ما يتعلق بحقوق الإنسان وحرية الأديان وحقوق القوميات، راحت تصف التطهير العرقي بعمليات تمدين للمتخلفين، وتربط زوراً بين تخريب البيئة وإنتاج الخيرات المادية، وتبرر جرائم وأد التجارب الشعبية في أسيا وأمريكا اللاتينية بأعتبارها مسعى لتأمين الديمقراطية. كما دأبت على تمجيد الفردانية وتعميم الخيبة جوهراً للمنتج الإبداعي، بغية إبعاده عن الهم الاجتماعي العام، خاصة بعد أن أنهكت الدوغمائية، الجسد النحيل للواقعية الإشتراكية.

مخاطر الإلتباس

كما سعى الليبراليون الجدد وتلامذتهم وما يزالون، الى تكيّيف إطروحاتهم لضرب الوحدة والتنوع الفكري في جبهة اليسار، والتقليل من أهمية التناقض بين سياساتهم الإستغلالية وبين حياة ورفاهية الناس، والتضخيم الفج لأهمية بعض الأمور القومية أو الروحية، حتى صار تحديد موقع لتمثال زعيم تاريخي أو تنقيح منهاج مدرسي أهم لديهم مثلاً من الإتفاق على صياغة برامج لمكافحة البطالة أو الفقر.

لقد تبنى اليمين الأوربي، مثلاً، دعوات لمنع النساء من ارتداء الحجاب، بحجة كونه شكلاً من اشكال إستعباد المرأة، الى الحد الذي خلق بعضاً من الإلتباس لدى اليسار، قبل أن يتم حله من خلال رفض إجبار المرأة على كلا الامرين، إرتداء الحجاب أو عدم إرتدائه، بإعتبار القسر بحد ذاته، سلوكاً مخالفاً لحقوق الإنسان. كما يحاول اليمين في الدول النامية إعلاء شأن بعض القيم العشائرية لنظام ماقبل الدولة أو فرض أردية مقدسة لتحركاته وذلك لمواجهة ما تحققه النساء من مكاسب، على طريق الكفاح للخلاص من التمييز والإستغلال والعنف الذكوري، وإحباط هذا التحرك التقدمي الإنساني.

ولفض الإشتباك، كان لابد لليسار من أن يتبنى هنا، حركة الحقوق النسوية، بإعتبارها قضية تقدم إنساني، وأن يحدد أبعادها وسبل تطورها ببرنامجه الخاص، وأن تحمل نقاط هذا البرنامج بالتفصيل حلاً لأحدى جوانب قهر النساء، دون أن يخشى مساعي اليمين لحجب الجوهر المتخلف والإستغلالي واللاإنساني لإطروحاته، أو أن تكون نقاط برنامج المواجهة مجرد رد على الاعيب اليمين. 

وللأسف، يبدو جلياً اليوم، وبسبب ظروف العقود الماضية، أن أنشطة اليمين قد تمكنت من التغلب على الثقافة المعادية للرأسمالية، سواء في تجميدها كعامل تنوير وتثوير وكأداة لتنظيم وإدارة الصراع، أو حبسها في إطار وسطي إصلاحي لايسمن من جوع، أو في توفير قوارب لبعض اليساريين الباحثين عن الإنتقال للضفة الأخرى، وهو نزيف يتواصل حتى الأن دون حلول عملية لإيقافه. الا أن كل هذا التقدم المؤقت لم يمكّن اليمين من القضاء على الثقافة اليسارية نهائياً، ولا في أي مكان في العالم.

حرب المصطلحات

أدرك غوبلز، حين قال أكذب أكذب حتى يصدقك الناس، أن الكذبة ستبقى موجودة بشكل ما في الذاكرة، كلياً أو جزئياً، لأمد ما، قبل أن تتأبد كـ “حقيقة”. ولهذا يدرك اليساريون بأن السعي لنزع سلاح اليمين من خلال تقليد لغته وما يستخدمه من مصطلحات، أو في طريقة تصويره وتحديده للمشاكل أو التورط بالدخول في ساحة المواجهة وفق ما يرسمه اليمين، يعتبر إنتحاراً سياسياً.

إن إستخدام ذات المصطلحات لوصف مشكلة ما، وإن إختلفت المقاصد والمعاني والمنطلقات، سيجعلها متداولة ومقبولة، وييسر على اليمين، بإمكانياته الكبيرة، أن يعمم مايريده من هذه المصطلحات، فيما لايجد الناس ضيرا من التعامل معها مادامت مستخدمة من اليساريين أيضا، رغم إختلاف مقاصدهم والمعاني والمنطلقات التي يريدونها من المصطلح.

ولتوضيح ذلك نورد مثالاً، يشير الى ما سرى في الأوساط الاجتماعية من تعابير يمينية تصف الفقراء بالعوائل المتعففة والمستضعفين والمحرومين، وهو مسعى واضح لمباركة الفقر وإضفاء مقبولية عليه، وجعل الرضا به من التقوى و “مكارم” الأخلاق. ويؤدي إنسياق بعض اليساريين مع ترديد هذه الأوصاف الى إستحسانها وتمرير أهداف اليمين من ذكرها، فيما يجب على اليسار أن يعتبر الفقر كفراً، وأن يجعله عاملاً لرفض الحرمان والسعي للإنتقال من وادي الإستضعاف الى قمة النضال والعدالة والمساواة، بغية إنصاف ضحايا الإستغلال والحروب والقمع والاتجار بالبشر.

وينطبق الأمر حين يصفون حق العاطلين عن العمل في فائض القيمة، بالمساعدات والإعانات أو حين يصفون تلويث البيئة من قبل الشركات الناهبة للقارات بالتغيير المناخي، أو حين يحاولون إيهامنا بان تحقيق التقدم العلمي والحضاري مرتبط بقدرة شعوب معينة على المثابرة وإحترام العمل وبناء الكفاءة، وليست له أية علاقة بالفقر وضعف الرعاية العائلية وتدني مستويات المعيشة والتتلمذ على منظومة تعليمية متخلفة كما هو الحال في العالم الثالث.

ما العمل؟

تتفق معظم قوى اليسار اليوم على إن أي شكل من أشكال المهادنة مع الهجوم الثقافي الذي يشنه اليمين عليها، على أمل تحقيق مكاسب على الأرض لقضايا التقدم التقليدية، لن يؤدي إلا إلى ترسيخ اليمين لمواقعه بشكل أكبر وأعمق، فتخلي اليسار عن التصدي لهذا الهجوم، لا يكون كافياً لانهائه. ولهذا تشدد هذه القوى على ضرورة تطوير العمل الفكري وتحسين الإداء الإعلامي والتخلص من أي قلق وإرتباك أو تضخيم وهمي لقدرات اليمين في حلبة الصراع الفكري.

كما لابد من إستثمار اليسار لما يمكن تسميته بالفطرة الآدمية المتمحورة حول التعاون والتعاطف الاجتماعي، وكل التقاليد والعادات والمتغييرات الثقافية ذات الجوهر التقدمي والطامحة لتعزيز التوجه الانساني في المجتمع، في مواجهة اليمين وإحباط مشاريعه التصفوية، ليس على أساس صياغات اليمين لهذه القيم ولا على أساس طرق الهجوم التي يمارسها، بل على أساس صياغة يسارية للتقليد أو المتغير الثقافي التقدمي وبرامج إدامته وتطويره وسبل صيانته من بربرية اليمين. لا بد لنا من أن نصف المشاكل بما يحمله جوهرها من تعبير طبقي، لأنها ببساطة لاتحل الا بذلك وليس بالتغافل عن المخطط الكارثي للأعداء.

علينا أن نجتمع على هدفين رئيسيين، أن نصنع ونطور إعلاماً بديلاً، يسارياً مؤسساً لخلق حركة جماهيرية واسعة، تتبنى المساواة والدفاع عن البيئة ومعاداة الرأسمالية والإمبريالية من جهة، وأن نواجه مخططات اليمين العاملة على تحويل التعليم الى مهنة وتفريغه من محتواه التقدمي، عبر فتح المجال واسعاً للجدل والنقد وللبحث عن عالم أفضل، مختلف وحقيقي وإنساني من جهة مكملة.

عرض مقالات: