منذ دخول الولايات المتحدة الأميركية في أزمتها المالية والإقتصادية أسوة بباقي البلدان الرأسمالية، ومع استمرار آثار هذه الأزمة حتى يومنا هذا، نمت وبشكل متسارع نزعة البحث عن تفسيرات غير تقليدية لقضايا الإقتصاد، وانجذب الكثيرون الى كارل ماركس ومؤلفه (رأس المال)، بل ويمكن الحديث عن ظهور فكرة عن امكانية نهاية الرأسمالية. ونما احساس عام، حتى في أوساط من يعتقدون أن لا بديل آخر، بوجود أزمة حضارة بات من الضروري حلها لصالح البشرية، وبات الكثيرون يرون ان لدى النظام الرأسمالي ميل متأصل فيه نحو الأزمات.
لم يقتصرالبحث عن تفسيرات جديدة على الأكاديميين فقط، بل شمل قطاعات واسعة من السكان الذي أكتشفوا، فجأة، أن «الأزمات ضرورية لإعادة إنتاج الرأسمالية»، وبالتالي كان لابد لأزمة بهذا القدر أن «تهز مفاهيمنا العقلية حول العالم ومكانتنا فيه حتى النخاع» (ديفيد هارفي: التناقضات السبع عشرة ونهاية الرأسمالية 2014).
في خريف عام 2011، بدأ الآلاف من سكان نيويورك باحتلال مساحة في احدى الباركات الرئيسية وسرعان ما تحولت إلى حركة اجتماعية على مستوى البلاد. وقد أدت حركة «احتلوا» هذه التي هاجمت التفاوت الاجتماعي والاقتصادي المتزايد إلى إثارة نقاش عام حول قوة القطاع المالي، وارتفاع الديون، وتدابير التقشف. ورغم أنها لم تكن بأي حال من الأحوال حركة «ماركسية» في مجملها، إلا أن العديد من المشاركين فيها تعرفوا،لأول مرة، على نوع من النقد الاجتماعي الذي يشترك في بعض الاهتمامات مع الفكر الماركسي – ومنذ ذلك الحين انغمس بعضهم بعمق أكبر في النظرية الماركسية من أجل فهم مكانتهم في العالم. في الواقع، وفقا لاستطلاع عام 2016، فإن 51 في المائة من الأميركيين الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و29 عاما يرفضون الرأسمالية (ماكس ايرنغفروند: أغلبية الشباب ترفض الرأسمالية، واشنطن بوست، 26 نيسان 2016). جاء ذلك في لحظة تاريخية عندما نظر الكثيرون إلى السناتور بيرني ساندرز على أنه منافس قوي للحزب الديمقراطي على الرئاسة عام 2016. ورغم أن ساندرز يميل كثيرا الى النموذج الاسكندنافي للاشتراكية الديمقراطية وليس الى الماركسية، إلا انه كان قادرا على اشعال حماس الاشتراكيين الديمقراطيين في أمريكا والرغبة في الاشتراكية بشكل عام.
وإذا أخذنا بعين الأعتبار التاريخ الطويل لمعاداة الشيوعية في الولايات المتحدة، فإن الانبعاث الحديث لفكرة واسم لا «الاشتراكية» فحسب، بل «الشيوعية» ايضا يبدو ملفتا للنظر. وضمن مشاركتها في النقاش الدائر نشرت الفيلسوفة والسياسية الأمريكية جودي دين كتابين لها: «الأفق الشيوعي» (2012)، و»الحشود والأحزاب» (2016). يخلص الأول إلى أن «مشكلتنا السياسية تختلف اختلافا جوهريا عن مشكلة الشيوعيين في بداية القرن العشرين - علينا أن ننظم الأفراد؛ وكان عليهم أن ينظموا الجماهير»، كما انها تذكرنا بأن في الولايات المتحدة، يتم استخدام مصطلح «الشيوعية» دائما للتعبير عن أمر سيء.
«ما الشيوعية؟ الرعاية الصحية الوطنية. حماية البيئة. النسوية. التعليم العام. المفاوضات الجماعية. الضرائب التصاعدية. أيام الإجازة مدفوعة الأجر. السيطرة على السلاح. حتى وسائل الاتصال الاجتماعي تعتبر شيوعية لانهم جميعا يحملون «الوعد المغري بتحقيق الذات الفردية» وهو ما أشار اليه ماركس في (الآيديولوجية الألمانية).
من هو الشيوعي؟ كل من احتج على العدوان العسكري الأمريكي في العراق وأفغانستان، أي شخص ينتقد إدارة بوش، أي شخص يريد فرض ضرائب على الأغنياء، وإغلاق الثغرات الضريبية للشركات، وتنظيم السوق».
منذ الانتخابات الأمريكية لعام 2016، تغير المشهد بشكل متوقع لينتقل التركيز على شخصية دونالد ترامب. وكان صعود الترامبية في أميركا بمثابة مرآة عاكسة، لصعود البونابرتية في فرنسا التي حللها كارل ماركس في كتابه (الثامن عشر من برومير لويس بونابرت). في هذا الكتاب يجري توضيح كيف أن الصراع الطبقي نفسه «خلق الظروف والعلاقات التي جعلت من الممكن لشخص متوسط المستوى، بشع، أن يلعب دور البطل». حتى ان بحض الباحثين أشاروا الى احتمال وجود «بونابرتية أمريكية». فيكتب الباحثان سام ميلر وهاريسون فلوس:
«إن أوجه التشابه السياسية بين فرنسا في القرن التاسع عشر وأمريكا في القرن الواحد والعشرين ملفتة للنظر. حتى أن تاريخ 9 نوفمبر يتوافق مع 18 برومير في التقويم الثوري الفرنسي. لقد أعد كلا البلدين الأرضية اللازمة لصعود السلطة الاستبدادية من خلال اليأس المتزايد للفقراء والعمال، واليسارالضعيف الذي لم يكن بإمكانه مواجهة جبروت الأحزاب الرأسمالية. في هذه الحالات من السخط الجماعي، وجد أعضاء المجموعات الضعيفة أنفسهم مغرمين بالرجال الأقوياء اليمينيين».
وكما كان ماركس يعلم جيدا، بطبيعة الحال، فإن الظروف السياسية والاقتصادية ليست هي الحاسمة بشكل مطلق. وبالتالي فإن ميدان المنافسة الاجتماعية محكوم من الناحية الديالكتيكية، بقدرة البشر على «صنع تاريخهم بأيديهم» وفي «ظروف يواجهون بها وهي معطاة ومنقولة لهم مباشرة من الماضي». (الثامن عشر من برومير لويس بونابرت).
لقد وجد كل من ترامب وبونابرت قاعدة دعمهما في الطبقة الوسطى، وقطاعات معينة من الطبقة العاملة، وفقراء الريف، والنخب الجمهورية. ويمكن القول بلا تردد ان خطابات بونابرت الشوفينية يمكنها ان تطرب اسماع الجموع الصاخبة لترامب، وقد برع كلاهما في استغلال الأزمة الاقتصادية عن طريق الشعبوية اليمينية والشوفينية القومية. ولو عدنا الى أوصاف ماركس لبونابرت لوجدنا انها تحاكي شخصية دونالد ترامب الإعلامية المهرجة فهي شخصية «ماكرة خرقاء، ساذجة مبتذلة، سامية بشكل دمية، مهزلة خرافية، مسخرة مثيرة للشفقة، مفارقة تاريخية تافهة، ونكتة مشاكسة من التاريخ العالمي، وهيروغليفية لا يمكن فك رموزها بالنسبة للعقل المتحضر-هذا الرمز كان موسوما بكل جلاء بسمة تلك الطبقة التي هي ممثلة البربرية في قلب الحضارة». (الصراع الطبقي في فرنسا). إن «البونابرتية الأمريكية» التي يتبناها ترامب تركز على تقديم العنصرية ككبش فداء بدلا عن الرأسمالية، في حين تعزز باستمرار تركيز سلطة الدولة في رأسها، ملقية باللوم على النخب العالمية الغامضة والتمويل الدولي باعتبارهما السبب الأساسي لتدمير حياة العمال الأميركيين، أي، خلطة عنصرية معادية لليهود والسود والمسلمين والمهاجرين.