يقول المؤرخ غاري غيرستل أن النظام النيوليبرالي الذي بدأ في عهد ريغان قد انتهى. فقد مارس الرئيس الديمقراطي كلينتون الضغط حتى أكثر من أسلافه الجمهوريين من أجل رفع القيود.

هل كان بيل كلينتون أكثر أهمية بالنسبة إلى الليبرالية الجديدة من رونالد ريغان؟ هل كان الرئيس الديمقراطي في التسعينيات أكثر تأثيراً في نجاح الليبرالية الجديدة من سلفه الجمهوري في الثمانينيات؟

في الكثير من المقالات والكتب، يُنسب هذا الدور الأكثر أهمية إلى ريغان. ولكن بعد قراءة كتاب “صعود النظام النيوليبرالي وسقوطه” للمؤرخ الأمريكي غاري غيرستل* يمكنك بسهولة أن تستنتج أن كلينتون هو، في الواقع، بطل الليبرالية الجديدة. خاصة إذا قمتَ، مثل غيرستل، بالتمييز بين الأيديولوجيا والتطبيق العملي في نظام سياسي - اقتصادي. مثل هذا النظام هو، بحكم تعريفه، تفاعل بين الأيديولوجيا والسياسة والتنفيذ، والذي يمتد لفترة أطول من أربع سنوات بين دورتين انتخابيتين. في تعريف غيرستل، لا يمكنك التحدث عن نظام اقتصادي سياسي إلا إذا تم تبني تغيير كبير من قبل الخصم السياسي.

لم تصبح الصفقة الجديدة للرئيس فرانكلين روزفلت في الثلاثينيات نظاما سياسيا اقتصاديا في هذا النهج إلا بعد الحرب، عندما واصل الرئيس الجمهوري دوايت أيزنهاور (من 1953 إلى 1961) السياسة الاجتماعية. كان هذا هو الوقت الذي نظمت فيه حكومة الولايات المتحدة الاقتصاد وقدمت الشركات والنقابات تنازلات اجتماعية. ووفقا لغيرستل، فإن إحدى اللحظات الرئيسية في فترة الصفقة الجديدة هذه هي الاتفاقية الجماعية التي أبرمها كبار مصنعي السيارات الثلاثة مع النقابات في عام 1950. لقد أصبح ذلك مثالاً للعديد من الحلول الوسط بين رأس المال والعمل. كما أجبر تهديد الشيوعية الشركات الكبيرة على تحسين وضع العمال في الولايات المتحدة من خلال تحسين الأجور وظروف العمل. وهكذا بدأ صعود الطبقة الوسطى الأمريكية الكبيرة.

بحسب تحليل غيرستل، أدى سقوط الشيوعية إلى ظهور الليبرالية الجديدة في أوائل التسعينيات. ليس كثيرا لأنه - على حد تعبير فرانسيس فوكوياما في ذلك الوقت – بالإمكان إعلان نهاية التاريخ، بل لأنه لم تبق سوى أيديولوجية واحدة مهيمنة. وذلك لأن رجال الأعمال الأمريكيين شعروا بالحرية في كسر التحالف مع النقابات. وانتقل الكثير من الإنتاج إلى بلدان خارج الولايات المتحدة، ونمت الفوارق في الدخل بسرعة.

في الثمانينيات، في عهد رونالد ريغان، أصبحت أفكار الليبرالية الجديدة بالفعل مهيمنة في واشنطن العاصمة. لقد قلص ريغان سلطة الحكومة وخفض الضرائب بوتيرة قياسية، مما أفاد الشركات والأثرياء على وجه الخصوص. كان ريغان قد استوحى توجهاته هذه بشكل مباشر من المنظرين الأيديولوجيين فريدريش هايك وميلتون فريدمان ومراكز الفكر التي تبنت أفكارهم منذ أواخر الستينيات. كما نجح في دمج هذا مع أفكار الحركة المحافظة المسيحية. وفقا لغيرستل، غالبا ما وُصفت الليبرالية الجديدة خطأ بأنها حركة محافظة.

اندماج الحركات

يجادل غيرستل بأن الحركات المختلفة التي، للوهلة الأولى، ليس لها علاقة تذكر ببعضها البعض قد اندمجت في نظام نيوليبرالي. كما يشير إلى “اليسار الجديد” الذي يناضل من أجل الحقوق المدنية الفردية منذ أواخر الستينيات، وإلى حركة المستهلكين التي أصبحت منذ ذلك الحين أكثر نشاطا في الولايات المتحدة من أجل حقوق المستهلك الفردية أو الطوباويون التكنولوجيون الذين اعتقدوا أن التكنولوجيا ستؤدي إلى تحرير الفرد، وبالتالي فهذا سيحدد طريقة تفكير العديد من رواد الاعمال في وادي السليكون.  ويشير، أخيرا، إلى صعود المواطنين الكوزموبوليتانيين (الكونيين) الذين يرون العالم وطنا لهم أكثر من الأمة التي ينتمون إليها. وهذا أنتج نخبة لها نفس الخصائص في العديد من العواصم؛ تتحرك بسهولة في جميع أنحاء العالم وهي من دعاة العولمة.

ولهذا السبب بالتحديد، يعتقد أنه ليس من المستغرب أن تشهد الليبرالية الجديدة ذروتها بشكل خاص في ظل إدارة كلينتون. ففي حكومته، اجتمع ممثلو النخبة العالمية وفتحوا الحدود. وتم تمرير أكبر قوانين إلغاء القيود خلال فترة حكمه. هكذا حصلت البنوك ومؤسسات مالية أخرى وشركات الاتصالات والتكنولوجيا على فرصة لكي تصبح طاغوتا تهيمن على أسواقهم.

تطرق غيرسيل، في كتابه، قليلا إلى بقية العالم، لكنه ركز ،بشكل أساسي، على التاريخ الأمريكي الحديث. ومع ذلك، فكتابه هو تحليل قيّم للعقود السابقة، لأنه غالبا ما يختار منظورا مختلفا قليلا عن المعتاد لأحداث حدثت مؤخرا.

لقد انتهى النظام النيوليبرالي. وبهذا، لا يريد غيرستل منح الكثير من الفضل لترامب. فهذا الأخير، يكتب غيرسل، لم يفعل أكثر من دفع الباب المفتوح لكي ينفتح أكثر. فالانكماش الحقيقي بدأ مع الأزمة المالية لعام 2008، إذ دعا الرئيس أوباما الاقتصاديين النيوليبراليين من إدارة كلينتون لمكافحة تلك الأزمة. وقد تم إنقاذ البنوك من خلال السماح للبنوك الأقل تضرراً بالسيطرة على المنافسين الأضعف. وهذا أدى بقطاعات واسعة من المجتمع إلى زيادة النفور وعدم الثقة بالشركات الكبرى. فازدادت مناهضة العولمة منذ عام 2008، حيث بدأ كل من الشركات والمستهلكين في إثارة تساؤلات حول الحدود المفتوحة.

أين نقف الآن؟ يحاول غيرستل، بحذر، أن يصف الدعم الحكومي الهائل، خلال أزمة كورونا، كظاهرة لنظام جديد. لكن في مشهد سياسي شديد الاستقطاب، قد يستغرق الأمر وقتا طويلا حتى يتبنى جانب واحد من الطيف السياسي مبادئ الطرف الآخر. نحن ننتظر نظاما جديدا، حيث تسود في الوقت الحالي فوضى بشكل خاص ومن داخلها يتعين على الحكومات والشركات أن تجد طريقها.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*مؤرخ وأكاديمي أميركي، أستاذ في جامعة كيمبريدج

عن صحيفة NRC Handelsblad الهولندية – 25 تشرين الثاني 2022

عرض مقالات: