تسمح الدولة البرجوازية نظرياً بقدر كبير من الديمقراطية وحرية التعبير. غير إن المدى الذي يمكن أن تصله هذه الحرية، والأشكال التي تتمظهر فيها مكاناً وزماناً، كانت ولازالت نقطة جدل. وتذكر وقائع التاريخ المعاصر، أن حكومات الرأسمال التي صدعت رؤوس الناس بالحديث عن العالم الحر، هي نفسها التي مارست أبشع عمليات الإستغلال والإبادة الجماعية ونهب الشعوب، في ذات الوقت الذي تعرض فيه مخالفوها، من الشيوعيين واليساريين، الى حملات قمع وإضطهاد علني ومستتر. وبالمقابل تعرضت المفاهيم الماركسية عن الديمقراطية الى تشويهات هائلة، منحتها الأخطاء التي أرتكبت في الدول «الإشتراكية»، شيئأ من المصداقية المؤقتة، وهو ما يحتاج اليوم، في خضم الصراع الطبقي مع العولمة المتوحشة، الى تدقيق وإعادة دراسة تلك المفاهيم والكشف عن الجوهر الإنساني لها، حتى ولو إحتاجت بعض مفرداتها الى تجديد.

الديموقراطية البرجوازية

من المعروف بأن البرجوازية، ومن أجل توسيع جبهتها في الصراع مع الإقطاع، تبنت فكرة توسيع المشاركة الشعبية في القرار، أو ما يعرف بالديمقراطية (حكم الشعب)، الا أنها أفرغتها من محتواها الشعبي عبر طريقين مترابطين:

  • إبقاء الإقتصاد محكوماً من أقلية محدودة، صيانة للإستغلال الطبقي، مما حجب الديمقراطية الاجتماعية.
  • فرض هيمنة وتمويل الرأسماليين من أصحاب الشركات والبنوك والثروات الطائلة، على أغلب مؤسسات الديمقراطية السياسية، الأمر الذي أفقدها جوهرها، فلم تعد قادرة على التعبير عن حكم الشعب، بل صارت تعبر عن حكم «ممثليه» المنتخبين دورياً.

وقد أثبتت التجارب المختلفة، لاسيما منذ إستتباب الأمر للأنظمة البرجوازية المتطورة، أن هذه الإنتخابات الدورية غالباً ما كانت تسفر عن فوز الممثلين الحقيقيين لرأس المال. كما أثبتت بأن فوز بعض ممثلي الشغيلة أحياناً، لا يغير جوهرياً من النتيجة، لأن التناقض بين السلطة السياسية والقدرة على ممارسة هذه السلطة، سيؤدي الى عجز أي مجموعة عن الحكم بما يتناقض مع الأسس المادية للرأسمالية، إضافة الى أن الماكنة العملاقة المهيمنة على المجتمع في الدول الرأسمالية تبتلع جهود أولئك الفائزين، وتمحي تأثيراتهم المعادية للإستغلال الطبقي المتوحش. ولعل من أبرز ملامح تلك الماكنة، إمتلاك الرأسمالين لـ 85 في المائة من الإنتاج العالمي والمدخرات الدولية، وسيطرتهم على وسائل الدعاية والإعلام وشبكات الاتصال الحديثة، كالأقمار الصناعية والفضائيات والشبكة العنكبوتية وغيرها، (تنتج الولايات المتحدة لوحدها 65 في المائة من مجمل المواد والمنتجات الإعلامية والإعلانية والثقافية والترفيهية)، وإستغلالهم الاف الجمعيات والمنظمات الاجتماعية والدينية ومراكز الأبحاث والجامعات والمفكرين والصحفيين لإدامة هيمنة الرأسمالية. ولهذا فإن الحريات الديمقراطية في ظل الرأسمالية هي أداة، تتحكم البرجوازية من خلالها بالصراع الطبقي في المجتمع، بما يضمن لها سلمياً على الأغلب، مواصلة سيطرتها.

ومن هنا، تكتسب الفكرة الماركسية القائلة بعدم إمكانية قيام حكومة ديمقراطية في مجتمع رأسمالي، مصداقيتها، إذ لا يمكن أن تتخلص الدولة، من إنحيازها لصالح المستغلين (مالكي وسائل الإنتاج)، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، ولا يمكن أن تبدو حيادية الّا حينما تريد حل النزاعات بين هؤلاء المالكين.

الديموقراطية العمالية

أكدت الماركسية على دور الناس في تغيير واقعهم وتخليصهم من الإغتراب وتحريرهم من الإستغلال. وبينت أن الديمقراطية تخضع لعملية نفي ديالكتيكي مع الإنتقال من تشكيلة اقتصادية اجتماعية لأخرى، وهي بهذا تكون في الإشتراكية ذات مستوى أرقى، يجتمع لها فيه بعدان، اجتماعي وسياسي، إذ بدون إلغاء الإستغلال تبقى المساواة أمراً زائفاً. ودعت الى الغاء مبدأ التمثيل السياسي، وإستبداله بالتشاركية العمالية، أي الإختيار المباشر لكل المسؤولين، والإمكانية الحقيقية لعزل أي قائد أو مسؤول من قبل من إنتخبوه. وتطورت فكرة ماركس عن المؤسسات التمثيلية لاحقاً حين دعا الى الإستفادة منها لتحقيق بعض التقدم على طريق الكفاح البروليتاري.

وفيما أشار ماركس الى حق العمال بالثورة إذا لم يتح لهم التعبير السياسي الحر، دعاهم الى سن دستور ديمقراطي يضمن هيمنتهم، مؤكداً على أن تحطيم الدولة البرجوازية، ببيروقراطيتها المسيطرة، يجب أن يتم بالتزامن مع خلق الشغيلة لمؤسسات ديمقراطية بديلة، ذات سمة خاصة، تحقق الملكية الجماعية لوسائل الإنتاج وتؤمن الإدارة السياسية للمجتمع بأسره، لاسيما خلال الإضمحلال التدريجي للدولة وزوال الطبقات.

وقد إقتدى البلاشفة بهذا الأمر حين أبدعوا في تطوير المجالس الشعبية، السوفيتات، كبديل ديمقراطي عن البرلمان، يتمتع بالسلطات السياسية والاقتصادية، ويمكن الناخبين من إتخاذ القرار بأنفسهم، ومراقبة السلطات ومحاسبتها وإستبدالها، مجالس تنبثق من الشغيلة والفلاحين (غالبية الشعب) بشكل عفوي. وقد إنتقد لينين البرلمانية البرجوازية، لا لأنها كانت ديمقراطية، بل لأنها لم تكن ديمقراطية بما فيه الكفاية، مشيراً الى أن قيام دكتاتورية البروليتاريا يعني الإنتقال من ظلم الأقلية الى حرية الأكثرية، فكتب يقول (ان جمهورية السوفيت للعمال والفلاحين والجنود ليست فقط أرقى نموذج في المؤسسات الديمقراطية، بل القادرة وحدها على التحول غير المؤلم الى الإشتراكية).

وكما توصل ماركس الى أن الحرية تعني القدرة المطلقة للتحكم بالإرادة والنشاط الإنساني والعلاقات الإجتماعية، حدد لينين المسافة بين الديمقراطية التي تعني الإستخدام المنظم للقوة من قبل طبقة ضد أخرى، وبين الحرية التي يتواصل تقدمها بالتراكم، حتى إنتقال البشرية من ملكوت الضرورة الى ملكوت الحرية.

وعلى هذا الأساس، أمن البلاشفة الحقوق المدنية الديمقراطية وألغوا عقوبة الإعدام وإحترموا حرية التعبير والنشر والتنظيم ومواصلة الأحزاب، بما فيها المناوئة للثورة، نشاطها السياسي العلني والحر، حيث شارك 19 حزباً في إنتخابات الجمعية التأسيسية في بتروغراد وحدها.

ولكن!

غير أن ذلك كله لم يدم طويلاً، لا بسبب رغبة بلشفية في إقامة دكتاتورية حزبية، بل نتاج التخلف الذي كانت تعاني منه البروليتاريا الروسية سواءً في الإمكانيات الفنية والمهنية أو على صعيد تقاليد العمل الديمقراطي والسياسي، والتلكؤات التي رافقت تحويل الشرعية من برلمانية الى مجالس شعبية، حيث لم يحقق تأميم الصناعة وفرة في الإنتاج، وفشلت السياسة الزراعية في تعبئة الفلاحين وبقيت مؤسسات الدولة الصحية والتعليمية متخلفة، إضافة الى عدم تحصين النظام الذي ولد من رحم الثورة ضد البيروقراطية، وإغفال البحث عن سبل التوازن بين الحاجة لصيانة النصر الذي تحقق رغم الحرب الأهلية والعدوان الخارجي، وبين ما كانت تعاني منه الطبقة العاملة من أمكانيات ضعيفة وما تحتاجه من تأهيل.

لقد إنتقد قادة الثورة هذا التراجع، بما في ذلك تغييب الديمقراطية المباشرة وتحويل السوفيتات الى تابع للدولة. وشدد أغلبهم على أن فرض قيود على الديمقراطية والحريات العمالية، يجب أن لا يتعدى فترات إنتقالية محددة. وكان من أبرز هؤلاء روزا لوكسمبورغ التي إنتقدت دور الحزب كسلطة يمكن أن تفضي الى الدكتاتورية وسلب قرار البروليتاريا الحر والحكم بإسمها والتحكم بمصيرها، خاصة إذا ما تم تغييب الحريات بذريعة الحفاظ على النصر، معتبرة ذلك خطراً جدياً على التوجه الإشتراكي لروسيا، حيث كتبت تقول (بدون إنتخابات عامة وحرية الصحافة والتجمع وصراع الأراء الحرة، ستحتضر الحياة السياسية لصالح دكتاتورية حفنة من السياسيين ودكتاتورية الحزب، إنها ليست دكتاتورية البروليتاريا).

لقد دافع هؤلاء، بمن فيهم لينين لاحقاً، عن الديمقراطية البروليتارية، التي تشترط وجود قوى مختلفة في مجالس العمال وفي لجان الإنتاج، ومساهمة جماعية في تخطيط الاقتصاد وتنمية المجتمع، وضمان حق كل فرد وكل مجموعة في التعبير عن أرائها، على أن يكون للحزب الشيوعي، كحامل للنظرية، مكانته في المجالس، عبر ممارسة دوره التنظيمي والدعائي والتربوي، دون إعتماد آليات بيروقراطية أو أقصاء، فكتب يقول (لا طريق الى الإشتراكية، الا عبر الديمقراطية، وعبر الحريات السياسية).

وهكذا، وبدلاً من قيام شكل راقِ للديمقراطية في ظل الإشتراكية، وتطوير متواصل لأشكال العدالة الإجتماعية، يحقق تفوقاً على الرأسمالية في إنتاج الخيرات المادية، هيمنت البيروقراطية فانهارت التجربة الأولى، مفسحة المجال لتجارب أرقى قادمة.

عرض مقالات: