فريدريك إنجلز، الذي وصف نفسه بـ»عازف الكمان الثاني» خلف كارل ماركس، يعد بطلا مأساويا، ففي رسالة كتبها إلى السياسي والكاتب الماركسي المعروف فرانز ميرينغ، قد يكون صديقه ورفيقه مدى الحياة، كارل ماركس، هو الأبرز بين الاثنين، لكنه توقع أن «التاريخ سيضع كل شيء في نصابه في النهاية». ولكن حدث العكس. بعد وفاة انجلز عام 1895، فعل التاريخ ما هو أسوأ. تم التعامل مع انجلز، في أحسن الأحوال، كمساعد لماركس العظيم، وفي تقييم أسوأ، اعتبر رائدا للستالينية، لأنه بالغ في تبسيط تعاليم ماركس العظيمة.

في أواسط نيسان 2022، صدر عن دار «شوركامب» كتاب يحتوي عدة مساهمات بعنوان «فلسفة الطبيعة، النظرية الاجتماعية، الاشتراكية. قراءة راهنة لفردريك انجلز»، حرره وأشرف على إصداره اسماعيل رابيك، أستاذ الفلسفة في جامعة فوبرتال الألمانية. تضمن الكتاب 17 مساهمة لكتاب مختلفين رسمت صورة انجل. كمفكر أصيل، ما كان للماركسية بدونه ان تكون ممكنة. لا تهتم المساهمات بإرثه النظري والسياسي فقط، بل تسطر الكثير عن حياة ابن رجل الاعمال الثري المولود عام 1820 في مدينة بارمن (فوبرتال حاليا).

تحول ديالكتيكي في مانشستر

في وقت مبكر، تسبب الشاب انجل. في جدل في عائلته شديدة التقوى، لافتتانه بغوته وغيره من «المسيئين لله». ومع اهتمامه بالأفكار الراديكالية والاشتراكية، أصبح انجلز سليلا فاسدا لعائلته المحترمة في أوساط برجوازية بارمن. بعد عام الخدمة العسكرية في برلين، أمضي انجلز معظمه بحضور محاضرات الفلسفة، ارسله والده، بما يشبه العقوبة الى مانشستر. كان على انجلز ان ينهي في هذا المركز الصناعي دورة في الإدارة والحسابات، في مصنع النسيج المملوك لعائلة «آرمين -انجلز»، وكان والده يأمل ان ينجز انجلز شيئا «لائقا» في حياته. لقد حدث التحول الديالكتيكي الأول في حياة الشاب انجلز.

بين الاعجاب والصدمة من هذه المعايشة كتب انجلز، ذو الأربعة وعشرين عاما، عمله الأول المعروف بعنوان «حالة الطبقة العاملة في انكلترا»، مستندا الى رأيه ومصادر اصيلة ولا يزال الكتاب، حتى اليوم، من روائع الريبورتاجات الاجتماعية. كان إنجاز انجلز العظيم، هو صياغة نقد أخلاقي واجتماعي للظروف المعيشية المدمرة للعمال كنقد للرأسمالية. ان «حالة الطبقة العاملة في إنكلترا»، كما استنتج انجلز، ليست نتيجة لأخلاق زائفة أو قيم خاطئة - إنها نتيجة نمط إنتاج يمتلك فيه البعض وسائل الإنتاج. ولم يتبق للبعض الآخر سوى بيع قوة عملهم. 

وهكذا تم، في النهاية، رسم برنامج انجلز السياسي والعلمي للعقود المقبلة: بعيدا عن عالم الأفكار، نحو المادة! ليس الوعي هو الذي يحدد الوجود، بل العكس، الوجود هو الذي يحدد الوعي، سيكتب بعد سنوات مع ماركس في «الأيديولوجيا الألمانية».

حياة متناقضة

استند تحويل ديالكتيك هيغل الى مادية تاريخية، في جزء كبير منها الى انجازات انجلز الفكرية المبكرة. لقد أحس بجسده وبشكل مباشر بمقولة هيغل المركزية في «التناقض»: في علاقته الحميمة مع العاملة الأيرلندية ماري بيرنز، صدمه التشابه بين حياة العمال والعبيد، وانه يحصل على دخله في أحد المصانع التي ساعدت في خلق هذه الظروف، يضاف الى ذلك ان هذا المصنع يعود لوالده! لقد أصبحت العلاقة بين الوجود والوعي الشغل الشاغل لأنجلز وماركس طيلة حياتهما.

ما يجعل الكتاب جديرا  بالقراءة هو الكيفية التي تم بها عرض تنوع واتساع انجلز ونشاطه الفكري. أكدت المساهمات مرارا وتكرارا الاستقلال الفكري لفريدريك انجلز، الذي صاغ نظرية الدولة، وتناول على نطاق واسع مسائل الطبيعة، وحفز التفكير بشأن القومية والاممية، وصنع لنفسه اسمًا كخبير استراتيجي عسكري. وركزت مساهمات اخرى على ما يمكن أن يخبرنا به انجلز اليوم (وفي المستقبل)، على سبيل المثال حول «المصادرة الحالية لمفهوم الحرية» أو مجتمعات ما بعد الرأسمالية.

من الواضح، وربما يكون هذا من طبيعة الأشياء، محاولة جميع كتاب المساهمات تقريبا إزالة الاحكام المسبقة والظلم الذي لحق بأنجلز في سياق التعامل معه (وفي بعض الأحيان يستمر، حتى اليوم، القيام بذلك). وتكمن صعوبة هذه المهمة في أن «عمل» انجلز غالبا ما يكون متاحا فقط بشكل مجزأ: إنه خليط من المقالات الصحفية، والمخطوطات التي بدأت ولكنها لم تكتمل أبدا، والملاحظات والمقتطفات، وخطابات ومقدمات يتم تحديثها بانتظام، للطبعات المتوالية لإصدارات ماركس.

حقيقة أن عددا قليلا نسبيا من مخطوطات انجلز تحولت الى كتب تعود أيضا إلى حقيقة أن «الرجل الذي اخترع الماركسية»، كما هو عنوان كتاب سيرة انجلز لتريسترام هانت، قضى جزءا كبيرا من وقته في خدمة كارل ماركس من خلال دعمه وعائلته ماليا لسنوات من ناحية، ومن ناحية أخرى عندما تولي إدارة ارث ماركس الضخم، وأصدر، من بين اعمال أخرى، المجلدين الثاني والثالث من (رأس المال).

هزيمة تاريخية عالمية للجنس الأنثوي

لقد كان هناك وقت لإصداراته الخاصة ايضا. اهتم انجلز بمسألة الجندر التي كانت غائبة تماما، لفترة طويلة، عن ماركس والماركسيين. ويعتبر «أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة» أحد أكثر مؤلفات انجلس مناقشة. مستندا على دراية بآخر تطورات البحث العلمي في حينه، قام بدراسة العلاقات الأسرية - الجنسية لمختلف العصور والمجتمعات، ارتباطا بنمط الإنتاج الخاص بكل منها و»مرحلة التطور» الثقافي.

ان ما يجعل الكتاب، كتابا كلاسيكيا (مثيرا للجدل) لنظرية الجندر الماركسية، هو ربط انجلز الصريح بين نظام الإنتاج الرأسمالي، أو نظام الملكية الذكوري، واضطهاد الرجال للنساء. لقد أدى تقسيم العمل إلى عمل مدفوع الأجر، وأعمال منزلية غير مدفوعة الأجر، وفق انجلز، الى «هزيمة تاريخية عالمية للجنس الأنثوي». ومن اللافت للنظر، يكتب انجلز لاحقا أن «التضاد الطبقي الأول في التاريخ» هو «العداء بين الرجل والمرأة في الزواج الفردي، والاضطهاد الطبقي الأول لجنس الأنثى من قبل الذكر». ينتقد تيريل كارفر (أستاذ النظرية السياسية في جامعة برستول البريطانية – المترجم) في مساهمته في الكتاب، بامتنان هذه المعرفة، كيف أن انجلز متمسك بالصور النمطية للجنسين، ولا سيما فكرة «الرجل كرجل»: «نسويته هي بالضبط ما تتوقعه في رجل: مليء بالمعرفة بالنساء والتمرد المتعمد تقريبا في حالة الرجال». يقول كارفر: «انجلز هو ماركسي النسويات. لكنه لم يكن بمفرده نسويا، لا في حججه ولا في أفعاله».

بعد قراءة الكتاب تبقى صورة الرجل الذي غالبا ما كانت حججه وتعامله، وجوده ووعيه، في تناقض مع بعضها البعض. في النهاية يبقى الكتاب جديرا بالقراءة، لأنه يوفر نظرة ثاقبة في حياة وعمل مفكر مثير ومتعدد الاهتمامات. كتاب قد «يصلح» قليلا من ما أفسده التاريخ.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* عن جريدة «نويز دويجلاند» الألمانية - 11 حزيران 2022