تغير مفهوم الاغتراب مع تطور المعرفة والنظم الفلسفية والثقافية وعلوم الاجتماع والسياسة، ولكن عربيا كان هناك تعقيد اضافي يرجع الى البحث عن الترجمة.

الاكثر دقة للمصطلح  في اللغات الفرنسية او الإنجليزية او الالمانية بشكل خاص  ورست على ثلاثة: الاغتراب او الاستلاب او الألينة ولكل منها مؤيدون ومعارضون. الا ان الأهم هو التركيز على المعني والجوهر بدلا من الغوص في تعقيدات الدلالات اللغوية التي ستزيد من الالتباس.

ويتيح تتبع المسار التاريخي لتطور مصطلح ومفهوم الاغتراب إمكانية التوصل الى فهم افضل له. فمثلا اعتبر الدكتور محمد رجب في كتابه “الاغتراب سيرة مصطلح” (دار المعارف 1988) وأيضا كتاب الفقيد فالح عبد الجبار “الاستلاب” (دار الفارابي 2018) ان بدايات استخدام المصطلح في القرن السادس عشر مع الثورة البروتستانتية ضد هيمنة الكنيسة الكاثوليكية بصيغتها الألمانية التي قادها مارتن لوثر (1546-1483) وكان أستاذا للاهوت وقسيسا وراهبا المانيا حرمت كتبه واعتبر خارجا عن القانون لتحديه سلطة البابا، أو الفرنسية السويسرية التي قادها كالفن (1509-1564) وكان عالم لاهوت وقسيسا لعب دورا في تطوير الفكر المسيحي وفي خلق منظومة وسرديات فكرية مخالفة للتعاليم الكاثوليكية والتي بشرت بالاصلاح الديني لمواجهة اغتراب الانسان الأوروبي الروحي في انفصال الذات الإنسانية عن تعاليم الكنيسة الكاثوليكية وطقوسها ومعجزاتها وما تفرضه من تعاويذ وأدعية و شراء الغفران والدفاع عن حرية الانسان الروحية بالضد من خرافة الخطيئة الأولى الازلية والمتوارثة، بل اعتبرت الخطيئة ممارسة فردية والخلاص منها هبة الهية ولا تشترط القيام بأعمال تكفيرية وأعطت الحق للفرد بالتواصل مباشرة مع الذات الإلهية بدون الحاجة الى القساوسة ورجال الدين، وان تفسير الكتاب المقدس ليس محصورا بالبابا بل للجميع كونه مصدر المعرفة الوحيد. ويلاحظ هنا ان احدى تداعيات الاغتراب هو خلق وعي بديل لتغيير واقع الاضطهاد الروحي الكاثوليكي لإعادة انسجام و توازن الذات الإنسانية. 

وتشير دراسة الحضارات القديمة خاصة بعد تطور علوم الاثار في أواخر القرن التاسع الى ان حالة الخوف والقلق والعجز والانفصال بين الذات والعالم الخارجي قد لازمت البشر منذ عصور ما قبل  التاريخ عندما كانوا في صراع مع الطبيعة المتوحشة والتي لم يكن الانسان قادرا على تطويعها او اخضاعها كما عكسته الاعمال الفنية للبشر الأوائل في الكهوف وحتى قبل بزوغ فجر المجتمعات الطبقية التي خلقت مسببات أخرى للاغتراب. فالتشكيلات الاجتماعية الاقتصادية المعروفة بالعبودية تكشف عن معاناة الناس من امتهان كبير وحط مشرعن لقيمتهم البشرية فهم سلعة بيد المالك الذي يبيعهم ويشتريهم، أو الاقطاع الذي كان يملك البشر عبر سيطرته على الأراضي وعلى نتاج الفلاح وجهده وهيمنة شرائع واعراف مجتمعية تضطهد الجميع وخاصة للمرأة. وتجلى الاغتراب بأشكال مختلفة من الدين والسحر والشعر والرسم، الا ان الوجه الاكثر حدة للاغتراب كان الثورات الشعبية التي شهدتها الحضارات التي عاشت حقب العبودية والاقطاع من اجل تغيير الواقع المرير الذي عاناه العبد والقن.

و كانت المرحلة التي تلتها هي في ولوج مفهوم الاغتراب في عالم السياسة في القرن الثامن عشر عندما دخلت أوروبا مرحلة عصر التنوير. وكان جان جاك روسو(1712-1778) الفيلسوف الفرنسي احد هؤلاء المنظرين والمعروف  بنظريته حول العقد الاجتماعي. وكان احد النشطاء في نادي اليعاقبة في الثورة الفرنسية، حيث تلخص رأيه بان الانسان ينتقل من حالة الفطرة البدائية الى حالة المجتمع وواقع الحضارة عبر الدخول في تعاقد اجتماعي. كما اعطى الاغتراب وجهين السلبي عندما يسود القلق والضياع والانفصال عن نتاجات الحضارة وتسلب منه ذاته وحريته قسرا،  والإيجابي في بناء المجتمعات.

ويعود الفضل الى الفيلسوف الألماني جورج فليهلم فردريك هيجل (1770-1831) أحد ابرز ممثلي الفلسفة المثالية الألمانية في أواخر القرن الثامن عشر. وعرف بتطويره المنهج الجدلي حول الصيرورة التاريخية والأفكار، حيث أعاد انتاج مفهوم الاغتراب ولكن فلسفيا وليحتل موقعا مركزيا في بنائه الفكري وفي عصر تميز بانتشار المعارف العلمية والفلسفية. وتزداد شعبية الفكر المادي مع تراجع دور الميتافيزيقا في التحليل الفلسفي.

ورافق كل ذلك صعود الطبقات الوسطى اقتصاديا وسياسيا في إنكلترا و فرنسا واحتدام الصراعات والتناقضات في المجتمع الألماني حيث ساد الاستبداد والتخلف الاقتصادي وركود الكنيسة التي كانت تقمع الأفكار المتنورة وتطلب من الناس النظر الى السماء فقط وترديد اقوال محفوظة. 

وقد تناول هيجل في كتبه عن فلسفة الروح والحق والدين موضوعة الاغتراب من منظور فلسفي ديني كنتاج للصراع الدائم بين ضدين الذات الإنسانية والعالم الخارجي المتجسد في أشياء (التشيوء) يخلقها الانسان وهذا الصراع بين الضدين عالم الأشياء والروحي هو الطاقة التي تولد القوة التاريخية المطلقة وهو صراع بين الذات الإنسانية المبدعة التي تنفصل عن غايتها في العالم الخارجي المتحقق في أشياء، وحيث تتعمق قدرتها على عدم رؤية ذاتها وتنفصل عن عالم الأشياء البشري وتصبح فوق الانسان بسبب سيطرة قوانين هي خارجة عن القدرة الإنسانية  مع فقدان الوحدة بين عالم الروح وعالم الأشياء ويحصل الاغتراب كأحد اشكال الوعي الذاتي المجرد. من هنا يكون محور التجربة الروحية وعي العلاقة المتوترة بين الانسان والانسان والفرد والمجتمع. فالفلسفة لدى هيجل كانت مرتبطة بتناقضات المجتمع الألماني وصراعاته وتداخلت فيها السياسة مع الدين وعلى حد قوله هجرت المانيا الحياة والسعادة والحرية. و يعطي البعض أهمية كبيرة لمؤلفات هيجل عندما كان شابا وطرح فيها تصوره حول الاغتراب مثلا في كتابه “ظاهريات الروح” (نشر في 1807) عندما كان يبلغ 36 عاما من العمر. ويتناول هيجل التناقض بين الانسان الواعي الواحد الذي يمتلك ذاته كليا مع الانسان الذي يعاني من الاغتراب أي انفصال الانسان عن ذاته ونشاطاته والاخرين والمجتمع  ويكون خارج نفسه فلا يمتلك ذاته التي استلبت منه. وفي كتاب “فلسفة الواقع”  الذي هو تسجيل لمحاضراته الجامعية للفترة ما بين 1805 و 1806 استخدم هيجل مصطلحين للاغتراب باللغة الألمانية باعتباره نشاطا ذاتيا ينعكس في الخارج ويتحقق على هيئة موضوع او شيء ( الجانب الإيجابي) الا ان الانسان غير قادر على التعرف على ذاته في الموضوع المتحقق او تحقيق وجوده يما يصنعه من أشياء (الجانب السلبي).

وقد واصل الفيلسوف والانثروبولوجي الألماني لودفيغ فيورباخ (1804-1872) هذا الاتجاه، واشهر كتبه “جوهر المسيحية” الذي تضمن نقدا للدين وأسهم في تطوير الفكر المادي. وكان مع هيجل من أهم المصادر الفلسفية للماركسية، واعتبر البعض أعمال فيورباخ جسرا بين هيجل وماركس.

 

عرض مقالات: