منظر ماركسي معروف ومؤسس الحزب الشيوعي الإيطالي. في عام 1928 أصدرت محكمة فاشية في ايطاليا حكمها على غرامشي بالسجن عشرين عاما بسبب نشاطاته الثورية. لعب غرامشي دورا بارزا في كشف النزعة الآلية والأساس الإيديولوجي للانحراف اليميني، كما كرس جهده لدراسة مشكلات المادية التاريخية وشغف بعلم الجمال وعلم الاجتماع وتاريخ الفلسفة .... الخ. وقد تناول غرامشي مسألة علاقة القاعدة بالبناء الفوقي والبروليتاريا بشريحة المثقفين، كما تناول مسألتي الثورة الثقافية ودور الايديولوجية في البنية الاجتماعية- الاقتصادية. وطبعا لا يمكن فهم موقف غرامشي بإعطائه أهمية أساسية للمستوى الإيديولوجي في البنية الاجتماعية – الاقتصادية من دون ربط ذلك بالظروف التاريخية التي كانت سائدة آنذاك في أوربا الغربية بفعل ابتعاد أفق الثورة الاجتماعية. فقد اعتقد غرامشي أن المشكلات “الثقافية” هي مشكلات ذات أهمية خاصة في مراحل تتلو النشاط الثوري، كما في أوربا 1815، ثم ثانية بعد عام 1921. ويقول إنه في مثل هذه الأوقات لا تكون هنالك معارك مباشرة بين الطبقات، ويتحول الصراع الطبقي الى “حرب مواقع”، وتصبح “الجبهة الثقافية” هي الميدان الرئيسي للنزاع (غرامشي، حياته وأعماله ص 253).

وفي إطار احتدام الصراع الثوري وفي سياق إعادة بناء الاستراتيجية الثورية في مجتمعات أوربا الصناعية في العقود الأولى من القرن العشرين طرح غرامشي نظرية السيطرة والهيمنة، وطور مفهوم المجتمع المدني معتبرا إياه احد مكونات البنية الفوقية. ففي احد النصوص الهامة في كتابه المهم (دفاتر السجن) كتب غرامشي قائلا: “ما نستطيع أن نفعله حتى هذه اللحظة، هو تثبيت مستويين فوقيين أساسيين، الأول يمكن أن يدعى المجتمع المدني، الذي هو مجموع التنظيمات التي تسمى (خاصة) والثاني هو المجتمع السياسي أو الدولة. هذان المستويان ينطويان من جهة أولى على وظيفة الهيمنة حيث إن الطبقة المسيطرة تمارس سيطرتها على المجتمع، ومن جهة ثانية تمارس الهيمنة المباشرة أو دور الحكم من خلال الدولة أو الحكومة الشرعية”.

ويضيف في مكان آخر قائلا:  “ينبغي الانتباه الى أن في مفهوم الدولة العام عناصر ينبغي ردها الى المجتمع المدني، إذ تعني الدولة : المجتمع السياسي + المجتمع المدني، أي الهيمنة المدرعة بالعنف” (الأمير الحديث، ص 147). ويضيف “لا ينبغي أن يفهم بكلمة دولة جهاز الحكم فحسب، بل جهاز الهيمنة الخاص أو المجتمع المدني” (ص 135). الدولة حسب رأي غرامشي هي المجتمع السياسي (سلطة الدولة) زائدا المجتمع المدني (الحقل الايديولوجي أو الأجهزة الإعلامية والتربوية للدولة البرجوازية الحديثة).

إن مفهوم الهيمنة مفهوم نظري يشير الى الطريقة التي يتم بواسطتها، إبراز مصالح المجتمع ككل، وكذلك طريقة تنظيم القبول الاجتماعي بهذا الاتجاه. الهيمنة، إذن، ذات علاقة بالمجتمع المدني في حين أن السيطرة (القسر) عائد للدولة، أي للمجتمع السياسي.

يقول غرامشي: (نستطيع الآن أن نحدد مستويين رئيسين من البنى الفوقية – احدهما يمكن أن يعرف باسم “المجتمع المدني، وهو مجموع الأجهزة المعروفة عموما باسم “الحاضنة”، والثاني هو “المجتمع السياسي” أو الدولة. وهذان المستويان يقابلان وظيفة “الهيمنة” التي تمارسها الجماعة المسيطرة عبر المجتمع كله من جهة ووظيفة “السيطرة المباشرة” التي تمارسها الدولة).

تبنى الهيمنة، كما يعاد إنتاجها، ضمن شبكة من المؤسسات يسميها غرامشي بالمجتمع المدني تمييزا لها عن الجانب القمعي للدولة. المجتمع المدني، إذن، هو تلك التنظيمات ذات الطابع غير الحكومي: النقابات، المدرسة، الأحزاب .... الخ، وهذه تنظيمات طوعية تفعل فعلها عن طريق الإقناع أي من خلال الايدولوجيا. وبخلاف هذه التنظيمات، تشكل مؤسسات الدولة: الإدارات، الجيش، الشرطة، القضاء، ما يسمى بالمجتمع السياسي، الذي يفعل فعله عن طريق القهر (السيطرة).

ومقابل ذلك دقّق غرامشي في العديد من الإشكاليات المرتبطة بقضية استقلالية الايدولوجيا، وبيّن أن استقلالية الايدولوجيا تتبدى في الهيمنة الثقافية باعتبارها رؤية للعالم لا تستمد قوتها وقدرتها من التغلب وفرض السلطة كما هو الأمر في حالة السيطرة، ولا من عقلانية مفترضة أو منطق مجرد، بل من احتضان كتل المجتمع المتجانسة وإقامة اللحمة بينها.

ورأى غرامشي أن الهيمنة الثقافية لا تعرف مركزا ولا تأتي عن آلية موحدة، بل هي نشاط متعدد المراكز يقيم تجهيزاته وتنظيماته خارج الدولة، وفي فضاء المجتمع المدني تحديدا، في محاولة منها – الهيمنة – لإقامة سياسة للايدولوجيا يكون الهدف منها استعادة المجتمع المدني لحقه في ممارسة شرعيته والوصول الى سيادته على مكونات وجوده الخاصة. بهذا يكون غرامشي أول من استعمل مفهوم الهيمنة بمعنى القيادة، وإيجاد سياسة ثقافية تهدف الى تنسيق وتوحيد مواقف الفئات والطبقات الاجتماعية كمقدمة لا بد منها لتحقيق السيادة، وذلك من خلال فاعلية الحزب “المثقف الجمعي” وقدرته على حشد وتعبئة كل أصحاب المصلحة في التغيير تحت قيادته، وذلك لأنه يحمل لواء الإصلاح والتغيير، ويسعى لنشر آليات هيمنته الثقافية والسياسية على كامل المجتمع.

وفي هذا التحليل يبلور غرامشي للحزب الشيوعي الطامح إلى السيطرة استراتيجية جديدة تقول إن من الممكن البدء في معركة التغيير الاجتماعي المنشود، أي الشيوعي، من استراتيجية تركز على العمل على مستوى المجتمع المدني وتعبئة المثقفين لكسب معركة الهيمنة الإيديولوجية التي ستعلب دورا كبيرا في مساعدة الحزب على عبور الخطوة الثانية وهي السيطرة على جهاز الدولة. ولأن الهيمنة مرتبطة بالإيديولوجية فإن المثقفين هم أداتها. ومن هنا جاءت حاجة غرامشي لإعادة تعريف المثقف وتحليل دوره والرهان الكبير الذي وضعه عليه في التحويل الاجتماعي.

عرض مقالات: