يخصص أمير صادر فصلاً كاملاً لما يسميه «لغز لولا». وتفسير المكانة البارزة التي تحتلها البرازيل في كتابه لا يعود فقط إلى خلفية المؤلف، إنما أيضا إلى الأهمية الموضوعية لذاك البلد في سياسات أميركا اللاتينية. كان لانتصار «لولا» الانتخابي العام ٢٠٠٢ جذوره في مقاومة الديكتاتورية كما في معارضة النيوليبرالية وسياسة «تجديد العملية الديموقراطية» في العام ١٩٨٥. تأسس «حزب العمال» العام ١٩٨٠ في محاولة لخلق نوع جديد من السياسة اليسارية، تتخطى الاشتراكية الديموقراطية والشيوعية السوفييتية في آن. وقد لعب الحزب دوره في تكوين حركات عمّالية وفلّاحية كما في تأسيس «المنتدى الاجتماعي العالمي» في بورتو أليغري، المدينة الجنوبية حيث طبّقت الإدارة التابعة لحزب العمال «ميزانية تشاركية»، وهي نوع مبتكر من الديموقراطية التشاركية. ولكن بعد أن هزمه مرشحون نيوليبراليون في الانتخابات الرئاسية في ١٩٨٩ و١٩٩٤، زاد استقلال «لولا» عن حزبه. والواقع، كما يقول صادر، إنه لم تكن له صلات بالتقاليد اليسارية في البرازيل: بصفته مناضلا نقابيا، كان يفتقر إلى أيديولوجية ثورية أو راديكالية، يؤْثر المفاوضات على الانقطاعات.
إن الرصيد الذي يجريه صادر لحكم «لولا» بعيد من أن يكون ورديا: يشخصه بما هو شكل من أشكال الليبرالية الاجتماعية التي لم تتحدَّ هيمنة رأس المال المالي ولا الإمبريالية الأميركية. وقد تأمنت الاستمرارية مع التوجه النيوليبرالي للحكومات السابقة بواسطة سياسات أساسية عدة: استقلال البنك المركزي — الذي يرأسه هنريكي مايرلليس، المدير السابق لـ«بنك بوسطن» [الأميركي] — الفوائد المرتفعة، تخفيض المديونية ولو بوتيرة أسرع من تلك التي يتطلبها صندوق النقد الدولي. وربما كان الأسوأ في كل هذا هو تحالف حكومة «لولا» مع المصالح الزراعية على حساب أمن البلد الغذائي والوعود بإصلاح زراعي. وإلى هذا التقصير أضيفت قلة الاهتمام بقضايا البيئة، وبحماية غابة المطر في الأمازون خصوصا، ما حدا بوزيرة حكومة «لولا» للبيئة، مارينا سيلفا، إلى الاستقالة وخوض انتخابات العام ٢٠١٠ ضد مرشح حزب العمال.
هل يعني ذلك أنه يجوز تعريف حكومة «لولا» على أنها نسخة استوائية من حكومات أنطوني بلير، كما حاجج البعض؟ ليس تماما، يقول صادر. ينبغي أن تؤخذ بالحسبان بعض الأوجه الإيجابية لتلك الإدارة الهجينة والمتناقضة: الأولوية المعطاة للاندماج الإقليمي على حساب التجارة الحرة مع الولايات المتحدة الأميركية، يدل عليه رفض البرازيل لـ«منطقة التجارة الحرة لعموم أميركا» التي اقترحها جورج بوش؛ اعتمادها سياسات التوزيع الاجتماعي، مثل برنامج «بولسا فاميليا» [ميزانية الأسرة] لمساعدة الفئات الأفقر بين السكان؛ خفض معدلات البطالة ولجم نمو العمل غير الرسمي؛ إضافة إلى سياسة خارجية مستقلة. وفيما أوافق صادر على هذا التقييم العام، أود أن أضيف أن ثمة مقياسا إضافيا لتعريف طابع إدارة «لولا». لقد كشف فراي بيتو، الداعية المعروف لـ«فقه التحرير» البرازيلي وصديق «لولا» ومستشاره السابق، «البنية الطبقية» للميزانية البرازيلية: ٣٠٠ مليار «ريا» تذهب لرأس المال الكبير — المصارف، الصناعات، ملّاك الأراضي — مقابل ٣٠ مليارا للأسر الأشد فقرا، على شكل برامج اجتماعية. والحصيلة المعادلة الحسابية للّيبرالية الاجتماعية: ٩٠ في المائة للأغنياء، ١٠ في المائة للفقراء. على أن هذه العشرة في المائة تشكل فرقا كبيرا بالنسبة للفقراء ما يفسر شعبية «لولا» بين الجماهير التي سميت «الفقريتاريا».
استراتيجية جديدة لليسار
كيف يمكن لليسار أن يحدد موقفه من حكومة «لولا»، ومن أشباهه من أحلاف يسار الوسط برئاسة باباري فاسكيس، ولوغو، أو كريستينا فيرناندس في الأرجنتين؟ في فصل لعله أهم ما في الكتاب، ينتقل صادر من التحليل إلى القضايا الاستراتيجية. يحاجج قائلا إن التحدي الأعظم الذي يواجهه اليسار في أميركا اللاتينية هو تحدي صياغة استراتيجية هيمنة جديدة، تتجاوز مأزق الإصلاحية والعصبوية معا. إن النزعة الإصلاحية، التي تمثلها إدارة «لولا»، لا تتحدى النموذج النيوليبرالي، بل ترتضي بأن تكون منوعا من منوعاتها: إذ إنها ليست تضع موضع تساؤل سلطةَ رأس المال المالي، والرأسماليةَ الزراعية ومجمعات الإعلام الخاصة. على أن النزعة «اليسارية المتطرفة» التي تركز غيظها على الدوام ضد حكومات يسار الوسط ولا تقتصر إدانتها على «لولا» وحده وإنما تدين معه موراليس وتشافيز أيضا على أنهما «خونة» — ليست هي البديل. يقترح صادر في المقابل مقاربة أكثر مرونة. البديهي أن حكومات يسار الوسط الأميركية اللاتينية أكثر تقدما من الأحلاف اليمينية النيوليبرالية السابقة، ولو بسبب رفضها معاهدات حرية التجارة واعتمادها سياسة التوزيع الاجتماعية. فالاستراتيجية الصحيحة لليسار، في رأيه، يجب أن تكون التحالف مع القطاعات التقدّمية من تلك الحكومات، فيما يجري تركيز الهجمات على سياساتها الرجعية: هيمنة رأس المال المالي، دعم الرأسمالية الزراعية، استقلال البنك المركزي، وغيرها. إلى هذه يجب أن تضاف استراتيجية أخرى، لعلها الأكثر ملاءمة للوضع: للمساعدة على حشد ضغط سياسي من تحت، بالتعاون مع الحركات الاجتماعية — من فلاحين وسكان أصليين وعمال ومتعطلين عن العمل — ومع تنظيمات يسارية، ومثقفين وطلاب وشبكات الكنيسة التقدمية، من أجل انتزاع تنازلات مهمة. والأفضل: البدء بتطبيق الإصلاحات الزراعية على نحو مستقل، كما فعلت «حركة البدون أرض» البرازيلية، واحتلال أملاك كبار الملّاك والنضال في الوقت ذاته لفرض الاعتراف بحقوق المزارعين البدون أرض. إن وجود تيارات راديكالية، ولكن غير عصبوية، ترى إلى القوى النيوليبرالية الرجعية على أنها العدو الرئيسي، وتكون مستقلة بوضوح عن حكومات يسار الوسط وقد بلورت نقدا حادا لليبرالية الاجتماعية، يشكل رصيدا هاما لليسار. وبناءً على رأي صادر، إن استراتيجية اليسار الجديدة هذه من شأنها استلهام التقليد الكلاسيكي للبرنامج الانتقالي، فبدلا من أن تقدم خيارا مجردا بين «إصلاح» و«ثورة»، يقترح إصلاحات لا يمكن للنظام استيعابها، مطالب تبدو محدودة — «خبز، أرض وسلام» — لكنها في الواقع تفتح المجال لنمو بديل معاد للرأسمالية. إن نداء فريدريك جايمسون «الطوبـاوي» — «العمل للجميع» — قد يكون مثلا عن تلك المطالب. ويذكرنا صادر أيضا أن كل الثورات هي بالضرورة هرطوقية ومفاجئة: ألم تكن الثورة الروسية «ثورة ضد كتاب «رأس المال» [لماركس]» كما كتب غرامشي؟
عودة إلى التاريخ
لمنح هذا النقاش الاستراتيجي عمقا تاريخيا، ينتقل صادر بعد ذلك إلى استكشاف السبل الثلاثة التي اتخذها اليسار الأميركي اللاتيني خلال القرن العشرين. السبيل الأول هو استراتيجية الإصلاحات الديموقراطية، التي افترضت الأحزاب الشيوعية التقليدية أنها سوف تؤدي إلى «مرحلة ديموقراطية وطنية»، بالتحالف مع البرجوازية الوطنية التقدمية، على اعتبار تلك الخطوات خطوات لازمة سابقة على تصوّر الانتقال إلى الاشتراكية. إلا أن تجارب مختلف الحكومات الوطنية (البرجوازية)، التي دعمها اليسار — كما في حالة فارغاس وبيرون — انتهت بهزيمة. ويصح الأمر ذاته أيضا على تشيلي، ولكن لأسباب مختلفة.
قطعت حكومة «الوحدة الشعبية» في تشيلي مع هذا النوع من استراتيجية «المراحل» وهدفت إلى انتقال سلمي إلى الاشتراكية، لكنها عجزت عن خلق «سلطة شعبية» فما لبث أن دمرها انقلاب عسكري وحشي. وأدى قيام ديكتاتوريات عسكرية في معظم بلدان أميركا اللاتينية بين ١٩٦٤ و١٩٧٣ إلى قيام استراتيجية اليسار الثانية: الحرب الغِوارية. بوحي من الثورة الكوبية، وغالبا بناء على تفسير أحادي الجانب لمسارها — كما في كتاب ريجيس دوبريه واسع النفوذ «الثورة في الثورة؟» (١٩٦٧) الذي شدد على وجهها العسكري والإرادوي، متجاهلا الحركات الجماهيرية — انتشرت حملات غوارية على امتداد القارة. لكنها هزمت أينما كان، باستثناء أميركا الوسطى ونيكاراغوا خصوصا، حيث تمكن الساندينيون من إسقاط سوموزا.
ولدت الاستراتيجية الثالثة في نهاية القرن العشرين في النضال ضد الحكومات النيوليبرالية. ولما كان معظم الأحزاب القومية والاشتراكية الديموقراطية قد تبنت النيوليبرالية، انتقلت قيادة المقاومة إلى الحركات الاجتماعية مثل الزاباتيستاس في المكسيك، و«حركة البدون أرض» البرازيلية، وحركة Piqueterios الأرجنتينية، وهي حركات المتعطلين عن العمل — ومنظمات السكان الأصليين في بوليفيا، بيرو، والإكوادور... وكان «المنتدى الاجتماعي العالمي» التعبير الأبلغ عن مقاومة الحركات الاجتماعية للنيوليبرالية.
وفي حين يعترف صادر بأهمية «حركة البدون أرض» ومساهمتها الإيجابية، إلا أنه يعتقد أنها جسّدت الفصل المثير للإشكال بين الحيز الاجتماعي والحيز السياسي الذي دعت إليه تلك الحركات باسم «الاستقلال الذاتي». وهو يحاجج بأن هذا التوجه أدى إلى هجران المجال السياسي والتخلي عن النضال ضد الهيمنة - ما جمد الحركات الشعبية في حقبة المقاومة ليس إلا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* عالم اجتماع وفيلسوف ماركسي فرنسي- برازيلي
مجلة “بدايات” – العدد 34 - 2022