هكذا باسم اللينينية فرضت الدولة السوفييتية سلطاتها على الحركة الشيوعية العالمية. واصبحت الماركسية ترقد جثة هامدة فوق سرير بروكوست او سرير الدولة السوفييتية البيروقراطية او تزيد بحسب طول هذا السرير – سياسيا ومصلحيا – أي بحسب المصلحة السياسية البرغماتية الخاصة لهذه السلطة.

ولا يمكن تفسير هذا بالعامل الذاتي وحده او الفهم المتخلف الخاص بالماركسية مع اهمية هذا العامل، وانما هناك بعض اسباب موضوعية تتعلق بالطابع المتخلف للمجتمع السوفييتي، وبروز النازية التي كادت تشكل تحديا مباشرا للتجربة السوفييتية والرغبة في اللحاق بالنظام الرأسمالي، الى غير ذلك.

ولست انكر مع ذلك ما حققه الاتحاد السوفييتي من انجاز عظيم في هزيمة النازية، وفي دعم حركات التحرر الوطني ومختلف حركات الطبقة العاملة في العالم. ولكنها حققت هذا في تقديري كدولة عظمى لا كدولة اشتراكية ماركسية.

وليس ما تشهده هذه السنوات الاخيرة من انهيار النموذج السوفييتي وتفكك المنظومة الاشتراكية الا النتيجة الطبيعية لهذا الانهيار الفكر والايديولوجي والدمقراطي والثوري عامة، وغلبة الطابع الارادوي والبيروقراطي على السلطة السوفييتية.

لم تعد الطبقة العاملة في السلطة، ولم يعد الناس يصنعون تاريخهم، واصبحت سياساتها رغم ما تتضمنه من مساندة كبرى لبلدان العالم الثالث ولقضية السلام العالمي تسعى لتحقيق ذاتها كدولة عظمى تسعى لنشر نفوذها واللحاق بالرأسمالية العالمية والتفوق عليها.

ان هذا لا يعني انه في داخل الاتحاد السوفييتي وداخل وخارج مختلف الاحزاب الشيوعية والاشتراكية في العالم ما كانت هناك تيارات ماركسية حقيقية تناضل فكريا وعمليا ضد هذا الاتجاه السلطوي البيوقراطي المناقض للماركسية وباسمها بالاضافة الى اسم لينين.

على انه برغم ما حدث خلال السنوات الماضية، ما تزال اعلام الماركسية والشيوعية، بمستويات مختلفة مرفوعة في اكثر من بلد وفي اكثر من حزب. وما يزال الصراع الطبقي محتدما بل يزداد احتداما على مستوى كل بلد، وعلى المستوى العالمي اجمع.

وبرغم البلبلة الفكرية التي تغذيها ترسانة البلاد الرأسمالية ضد الفكر الاشتراكي عامة، والماركسي خاصة، فلم تبرز الحاجة الى الاشتراكية والى الفكر الماركسي كما تبرز الحاجة اليه هذه الايام. ان الحكم على الاشتراكية والفكر الماركسي لا يكون بما اصاب التجربة السوفييتية الاشتراكية من انهيار، وانما الحكم الصحيح على الاشتراكية والماركسية يكون بما تعانيه الرأسمالية العالمية اليوم من عجز عن تقديم حلول للمشكلات الاساسية للواقع الانساني، بل وبشراستها العدوانية والاستغلالية ازاء شعوب العالم الثالث بوجه عام، فضلا عن تفاقم ازماتها الاقتصادية والاجتماعية والقيمية.

وهكذا تبرز الاشتراكية والماركسية كضرورة، ما تزال تتطلع اليها هذه الاوضاع التي تزداد ترديا في حياة شعوب العالم وخاصة شعوب البلاد المتخلفة والنامية.

وهكذا نعود الى البداية متسائلين: هل ما تزال الماركسية، كما قال بها ماركس، هي نفسها لم تتغير، وعلينا ان نرفع اعلامه واعلامها؟ وهل ما تزال الماركسية – اللينينية التي ناضلت وضمت آلاف الناس تحت رايتها، كما هي بذات الصيغة القديمة؟

ثم اخيرا، ما السبيل للخروج من هذه الازمة التي تعانيها الماركسية فكرا وواقعا..؟!

ان الماركسية في تقديري ما تزال تحمل من المصادرات النظرية والتوجهات المنهجية ما يجعلها مرجعية اساسية من مرجعيات الفكر الاشتراكي والنضال الاشتراكي، وخاصة فيما يتعلق باستنادها الى البحث العلمي، اختبارا لمصادراتها وكشفا متصلا لقوانين الواقع، فضلا عن الممارسة الثورية المنظمة المستندة الى هذه الممارسة العملية، الى جانب رؤيتها النظرية الفلسفية المادية الجدلية في دلالتها التي اشرنا اليها سابقا، وفي ماديتها التاريخية في صورتها، المتطورة بتطور الخبرات والمعارف، لا في رؤيتها التخطيطية الميكانيكية الاحادية الاتجاه، فضلا عن الطابع النضالي للماركسية من اجل الانتقال بالمجتمع البشري من مرحلة الرأسمالية الى المرحلة الاشتراكية كمرحلة انتقالية نحو الهدف الشيوعي – الذي وان يكن ذا طابع يوتوبي لا يمكن ان تتحدد معالمه الآن – الا انه على الاقل وبشكل عام لن يكون نهاية للتاريخ، بل سيكون مرحلة تاريخية يتحقق بها التحرر الكامل للانسان من عوامل القهر والاغتراب والاستغلال والتي تتفتح بها آفاق انسانية حقيقية جديدة للحرية والابداع.

وكما ارتكزت الماركسية على مرجعيات علمية وفكرية سابقة، فضلا عن انها كانت ثمرة للواقع الموضوعي وللمرحلة التاريخية التي نشأت فيها ومنها، فلا شك ان الماركسية في عصرنا الراهن، لا بد ان تجدد مصادرها التي تستند اليها في تجددها الفكري والنضالي.

فلا شك انها سوف تستند في مرجعيتها الى الماركسية والى ما استندت اليه الماركسية من مرجعيات علمية وفكرية وموضوعية كما سبق وان اشرنا، ولكنها ينبغي ان تضيف الى ذلك ما استجد منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم من تطورات علمية وتكنولوجية، وبخاصة ما يتحقق اليوم من ثورة كاملة في مجالي علوم الاتصال والمعلوماتية، فضلا عن الخبرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، السلبية والايجابية، وخاصة خبرة انهيار النموذج السوفييتي والمنظومة الاشتراكية، وانهيار حركات التحرر الوطني واحتدام الصراعات العرقية والقومية والدينية في العالم، والازمات التي يعانيها اليوم النظام العالمي ومحاولات الهيمنة على العالم، الى جانب بروز حركات اجتماعية جديدة في العالم كحركات السلام، والدفاع عن البيئة، والجماعات المدنية والاهلية، والمنظمات الدولية والصورة العامة للعولمة بدلالتيها الايجابية والسلبية فضلا عن تطور مفهوم قوى الانتاج نتيجة للثورة العلمية الجديدة ومفهوم القيمة وما يفرضه هذان المفهومان من تطوير ضروري لمفهوم الطبقة العاملة، ومفهوم دكتاتورية البروليتاريا، فلم تعد الطبقة العاملة هي ذاتها في صورتها التقليدية بل اضيفت اليها قوى جديدة، كما ان مقولة دكتاتورية البروليتاريا اصبحت اضيق من ان تتسع للقوى الانتاجية والابداعية الجديدة التي يمكن اليوم ان تشارك في التحولات الثورية.

وهكذا تتسع مرجعية الحركة الاشتراكية وتتعدد مصادر قوتها وفاعليتها عن الحدود الماركسية القديمة، وان تكن امتدادا ابداعيا لها. وهنا يثار سؤال مشروع قابل للمناقشة لانه يطوف في اذهان كثيرة: الا تعد مقولة “الاشتراكية العلمية” والاكتفاء بها اكثر ملاءمة تعبيرا عن الاوضاع الجديدة بدلا من الانتساب النظري الى اسم ماركس دون اغفال اسمه كمصدر اساسي من مصادر الفكر الاشتراكي العلمي؟ هذا فيما يتعلق بالماركسية، اما فيما يتعلق باضافة اللينينية الى الماركسية، فقد يكون من الملائم الاشارة الى منجزات لينين الفكرية والعملية باعتبارها مصدرا من مصادر الاستلهام، شأنها في ذلك شأن العديد من الخبرات الفكرية والنضالية في التاريخ البشري عامة، بل والتاريخ الوطني والقومي، سواء في التراث الفكري او الممارسات والانجازات العملية، وذلك دون الالتزام بها التزاما نظريا كاملا؟

وقد تكون قضية البنية التنظيمية الخاصة للحزب اللينيني بالضرورة موضع اجتهاد جديد خاصة في ضوء التوسع في نطاق القوى الاجتماعية المؤهلة للمشاركة في التغيير الثوري، فضلا عن ضرورة تنمية روح الديمقراطية واحترام الاختلاف وتصفية الاتجاهات البيروقراطية والتسلطية في البنية الحزبية خاصة، وفي التحالفات بين الاحزاب عامة.

وهنا يثار السؤال مرة اخرى، اعتقد انه يدور في كثير من الاذهان وخاصة بالنسبة للينين حول الاكتفاء بمقولة الاشتراكية العلمية والاكتفاء بها كمرجع اساسي عام باعتبارها اكثر ملاءمة من الانتساب الى اسم من الاسماء مهما كان التقدير العميق لابداعهم الفكري والنضالي. فلعل الانتساب الى اسم من الاسماء مما يحد من امكانية تطوير الفكر النظري، بل قد يثير نوعا من الاحساس بالاغتراب عن خصوصية الواقع الوطني لدى الجماهير الشعبية وهذه قضية مطروحة للحوار.

ان التركز على عملية التجربة الثورية – التغييرية، وتنمية الثقافة الديمقراطية والعقلانية والنقدية والابداعية، والتخلص من كل التعميمات الايديولوجية المجردة، والحرص على الدراسة العينية للواقع العيني.. سواء في خصوصيته الوطنية المحلية او خصوصيته القومية العربية في تجربتنا العامة، او في خصوصيته العالمية.

والسعي الى قيام اوسع التحالفات السياسية والنضالية بين مختلف القوى الانتاجية والابداعية والاجتماعية على المستوى الوطني والعربي والعالمي، بل والسعي الى المشاركة في انشاء اممية جديدة لا يلغي الخصوصيات الوطنية والقومية والثقافية المختلفة، بل يجعل منها قوة تخصيب واغناء لهذه الاممية الجديدة، فضلا عن الحرص على الطابع الديمقراطي لهذه الاممية بحيث تحترم الاختلافات والتمايزات، والخبرات المتنوعة، وتزول عنها المركزية البيروقراطية لقطب من اقطابها.

هذه في تقديري هي بعض العناصر التي قد تصلح نقطة انطلاق لمرحلة جديدة تطويرا للفكر الماركسي، وتنمية النضال الثوري، وتوسيعا، وتعميقا له، للخروج بالحركة الاشتراكية خاصة، وحركة النشاط الثوري الانساني عامة. من ازمتها للتصدي لمحاولة الرأسمالية العالمية فرض هيمنتها وسياساتها ومصالحها الاستغلالية وثقافتها على عالمنا المعاصر.

على ان هذه العناصر العامة لا تغني عن معالجة خبرة فكرنا الماركسي في التطبيق الحي، معالجة نقدية محددة في اطار واقعنا المصري المحدد.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* المفكر الماركسي المصري الذي مرت ذكرى رحيله الـ 13 يوم االعاشر من الشهر الحالي

عن “الحوار المتمدن” – 26 حزيران 2005

عرض مقالات: