كان مهدي عامل من بين المجتهدين العرب القلائل الذين حاولوا أن يقدموا مساهمات عربية متميّزة في حقل الفكر الماركسي، وأن يسعوا إلى “تمييز” المفاهيم الأساسية للماركسية عربياً.

صحيح أن أفكاره اندرجت في إطار نظريات التبعية التي اعتبر أنصارها أن تطور الرأسمالية غير المتكافئ خلق مركزاً وأطرافاً في إطار “نظام عالمي” واحد، هو النظام الرأسمالي العالمي، وأن العلاقات بين دول هذا المركز وبين دول الأطراف تقوم على أساس نهب المركز للأطراف، بما يعيق بالتالي تصنيع هذه الأخيرة وسيرها على طريق التنمية، إلا  أن مهدي عامل ساهم في إغناء نظريات التبعية هذه من خلال التمييز الذي أقامه بين البنية الإمبريالية المسيطرة في المركز والبنية الكولونيالية التابعة في الأطراف، من جهة، وبين نمط الإنتاج الرأسمالي السائد في الأولى ونمط الإنتاج الكولونيالي السائد في الثانية، من جهة ثانية، مقدّراً أن نمط الإنتاج الكولونيالي هذا يعيد إنتاج “التخلف”، وأن تحرر البلدان التي يسود فيها  من التبعية للامبريالية لا يمكن أن يحصل إلّا بالانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية.

هذه الأفكار والاجتهادات بلورها مهدي عامل في السبعينيات والنصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي؛ ومنذ ذلك التاريخ نشأت في العالم ظواهر جديدة، من بينها انهيار النظام “الاشتراكي”، وبروز الدول الصاعدة على مسرح الأحداث والتغيّر الذي طرأ على بنية الإميريالية، الأمر الذي جعل بعض الباحثين الماركسيين يعيد النظر في الأفكار التي أنتجتها “مدرسة التبعية”، وخصوصاً بعد تطوّر عمليات التصنيع في العديد من البلدان الرأسمالية التابعة، مثل الأرجنتين أو البرازيل في أمريكا اللاتينية، أو كوريا أو الهند في آسيا، أو الجزائر أو ساحل العاج في إفريقيا.

وسأجتهد في ذكرى استشهاد مهدي عامل في تقديم بعض الأفكار حول هذه الظواهر الجديدة، وخصوصاً في ما يتعلق بالتطور الذي طرأ على بنية الإمبريالية في العقود الأخيرة.

فمنذ ثمانينيات القرن العشرين، ترافقت ظاهرة العولمة مع بروز النيوليبرالية التي باتت هي الوجه الاقتصادي للإمبريالية، بحيث صارت آليات السوق تتحكم في مصائر البشر، وصار الاقتصاد يفرض إرادته على المجتمع، ويتم انسحاب الدولة من مجال الخدمات الاجتماعية والتوزيع الاجتماعي، وتتسارع عمليات الخصخصة وتقليص حجم القطاع العام وإضعاف قوة النقابات العمالية، وتتعمق ظاهرة تدمير البيئة. وقد ساهم صندوق النقد الدولي والبنك الدولي في فرض هذه السياسات النيوليبرالية في معظم أنحاء العالم. وفي البلدان النامية، صارت المنظمات غير الحكومية، التي تحظى بتمويل من الدول والمؤسسات الغربية والبنك الدولي تسعى إلى ملء الفراغ الذي خلفه انسحاب الدولة من مجال الرعاية الاجتماعية>

وقد أدت العولمة إلى تحول حقيقي في الاقتصاد العالمي. فبحسب المقاربات الكلاسيكية تقوم الإمبريالية بدرجة عالية تمركز الإنتاج ورأس المال، واندماج رأس المال المصرفي ورأس المال الصناعي وبروز رأس المال المالي، بتصدير رؤوس الأموال على نطاق واسع إلى البلدان التابعة مع منتجاتها؛ لكن اليوم  لم تعد رؤوس الأموال تتحرك بشكل رئيسي من الشمال إلى الجنوب، بل صارت تنتقل من بلدان الجنوب إلى البلدان المتقدمة في الشمال، وخصوصاً على شكل خدمة الديون. ومن ناحية أخرى، صارت الشركات الرأسمالية الكبرى في بلدان الشمال تنقل مصانعها إلى بلدان الجنوب، حيث المواد الخام والأيدي العاملة الرخيصة، أو توزع  عملياتها الإنتاجية، من مرحلة التصميم إلى مرحلة الإنتاج  والتسليم إلى المستهلك النهائي، على عدة بلدان من الشمال والجنوب على حد سواء، بحيث باتت  صورة الاقتصاد العالمي صورة اندماج قطاعات من الاقتصادات القومية في ظل سيطرة الشركات متعددة الجنسيات، الأمر الذي ساهم في تسريع عمليات التصنيع في البلدان الصاعدة، وفي جعل العاملين في بلدان معينة يعملون لحساب شركات خاضعة لسيطرة أجنبية .

وبغية تحليل هذه الظاهرة الجديدة، أصدر الناشط  والمفكر الماركسي الإيطالي أنطونيو نيغري بالتعاون مع الأستاذ الأمريكي للأدب المقارن مايكل هاردت في سنة 2000،  كتاب “الإمبراطورية”، الذي توقفا فيه عند بروز ظاهرة جديدة تتمثل في إمبراطورية عابرة للقومية لامركزية، لم تعد امتداداً لسيادة دولة ما إلى ما وراء حدودها، بحيث صار رأس المال العابر للقوميات هو الذي يهيمن على عملية إعادة إنتاج  رأس المال في العالم، وصارت سياسات القوى الرأسمالية الكبرى توظف في خدمة مصالح رأس المال هذا. ومن هنا، قدّر البعض أن الإمبريالية الأمريكية، رغم قوتها العسكرية الهائلة وقدرتها على التدخل العسكري في جميع أنحاء العالم، باتت تندرج ضمن الإطار الأوسع لإمبريالية رأس المال المالي المعولم  الذي تخدمه الدول القومية،  حتى وإن كانت ما زالت تلعب الدور الأساسي في تعزيز وحماية مصالح رأس المال المالي المعولم هذا.

ومن المعروف أن هذا النظام واجه صعوبات خطيرة في السنوات الأخيرة، تجلت بوجه خاص خلال أزمة سنة 2008 الكبرى التي انطلقت من الولايات المتحدة الأميركية نفسها، وكشفت عن هيمنة البنوك الكبرى وطابعها الطفيلي والاستغلالي للعالم، كما فضحت “عمليات الإنقاذ” التي قامت بها حكومات الدول التي قامت بتوزيع مليارات الدولارات من الأموال العامة ومن جيوب دافعي الضرائب لإنقاذ البنوك المتعثرة. وقدّر بعض المحللين أن “الترامبية” كانت إلى حد كبير ردة فعل على الآثار المدمرة التي خلفتها أزمة سنة 2008 على قطاعات واسعة من المجتمع، معتبراً  أن أسس “الترامبية” تكمن في انقسام عميق للبرجوازية الأمريكية، بين برجوازية كبيرة معولمة، وبرجوازية صارت تعاني من تبعات العولمة، وتطمح إلى حماية السوق الداخلية وتعظيم شأن “الأمركة” على أساس شعار “أميركا أولاً”، واللجوء إلى الحروب التجارية بغية وقف تراجع الولايات المتحدة على الصعيد العالمي، خصوصاً وأن الولايات المتحدة، التي استندت هيمنتها على الإنتاج والقوة المالية والعسكرية في سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة، راحت تفقد تفوقها الإنتاجي منذ مطلع سبعينيات القرن العشرين، وهي قد تفقد في المستقبل التفوق المالي بحيث تقتصر هيمنتها على القوة العسكرية.

وبغية الحفاظ على هذه الهيمنة، برز منذ مطلع الألفية الثالثة شكل جديد لها؛ فإلى جانب البنتاغون ووول ستريت وهوليوود، برز وادي السيليكون، ومعه غوغل وأبل وفيسبوك وأنستغرام ويوتوب ونتفليكس، التي أصبحت اليوم ناقلات ثقافة عالمية جديدة، جاءت لتعزز أكثر فأكثر سلامة كتابات أنطونيو غرامشي الذي أثرى فهم الإمبريالية بافتراضه أن البرجوازية تحافظ على هيمنتها من خلال سيطرتها على جميع مؤسسات الدولة، بما في ذلك المؤسسات الثقافية التي تنتج الأفكار والقيم. فإذا كانت “الرأسمالية الرقمية” تعود إلى سنوات 1980-1990، التي شهدت ظهور الكمبيوتر الشخصي والأنترنت، فإن هذه الرأسمالية الجديدة، التي أطلق عليها البعض اسم “الرأسمالية الخوارزمية”، ظهرت في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وتزامن ظهورها مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي والهواتف الذكية والبيانات الضخمة ونشر الخوارزميات والتعلم الآلي.

ويبدو أن الولايات المتحدة الأميركية باتت تراهن على تطوير الخوارزميات والروبوتات والذكاء الاصطناعي كي تضمن استمرار هيمنتها على العالم والحؤول دون بروز منافسين لها ينقلون العالم إلى التعددية القطبية. وفي هذا الصدد، دخلت الولايات المتحدة منذ عهد ترامب في حرب تجارية مع الصين، التي تبرز اليوم بصفتها القوة المهيمنة المحتملة التالية على الساحة الدولية، إذ أصبح في إمكانها الآن، بعد أن ترسخ نفوذها الاقتصادي كقوة صناعية عظمى، أن تتفوق على الولايات المتحدة من الناحية التكنولوجية في العقد المقبل. وقد تجلى هذا التوتر المتزايد بين الولايات المتحدة والصين في محاولات الأولى الحد من انتشار شركات صينية معينة، مثل شركة الهواتف الذكية وأجهزة الكومبيوتر المحمولة Huawei ، أو وسيلة التواصل الاجتماعي TikTok التي أصبحت شائعة للغاية لدى الشباب منذ إطلاقها في أيلول/سبتمبر 2016.

فهل يمكن الاستنتاج من هذا كله أن إمبريالية القرن الحادي والعشرين ستتصف بهيمنة الاحتكارات الرقمية على الاقتصاد، وباندماج رأس المال الصناعي والمالي، من جهة، مع رأس المال الرقمي، من جهة ثانية، بحيث يصبح تصدير الخوارزميات محركاً رئيسياً للتراكم؟

ختاماً، فإنه بفضل هذا التقدم التقني والعلمي المتسارع، يمكن للبشرية القضاء على ظواهر الفقر والجوع والأمية والنزاعات المسلحة، التي ما زالت تعاني منها عشرات الشعوب والأمم على امتداد المعمورة، لكن ما هو قائم اليوم في عالم تهمين عليه الإمبريالية، بغض النظر عن أشكالها وتجلياتها، هو أن  1.2 مليار شخص يعيشون تحت خط الفقر، وأن 822 مليون شخص يعانون من المجاعة، وأن نحو 750 مليون شخص يعانون من الأمية، ويقتل 8 ملايين رجل وامرأة وطفل كل عام في نزاعات مسلحة. ولذلك يصبح النضال ضد الإمبريالية حاجة ملحة للبشرية، وهو نضال لا ينفصل عن النضال ضد الرأسمالية ومن أجل الاشتراكية، كما كان في زمن مهدي عامل.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

“النداء” اللبنانية – 6 أيار 2021

عرض مقالات: