“كانت التحولات المتعاقبة في التقنية- التي حدثت منذ بداية الحضارة حتى يومنا هذا- مدفوعة عند كل منعطف بمصالح الأفراد والجماعات المنتمين إلى الطبقة الحاكمة في كل عصر. وعندما كان ثمة فوائد تجنيها الطبقات الاجتماعية الأخرى فإنها كانت فوائد عرضية. فحتى يستطيع العبيد والأقنان أداء أعمالهم وينتجوا، كان عليهم أن يظلوا على قيد الحياة. وعندما تصبح آلية الحضارة أكثر تعقيداً، تبرز الحاجة الاجتماعية لأن يتلقى بعض المنتجين تعليماً مناسباً. قد نعجب حقا بالأهرامات كإنجاز معماري وهندسي، لكن ما تمثله هو إهدار لجهود عشرات الآلاف من البشر من أجل المنفعة الافتراضية لروح الفرعون، واكتساب المقاولين الكهنة لنسبة ما من الهيبة والثروة. تذكرنا الآثار الدائمة الوحيدة التي تركها لنا الأقدمون في المدن والأرياف المدمرة، بالثمن الذي كان على الناس دفعه مقابل تقدم الثورة الصناعية. والآن، في عصر العلم هذا، كم هو قليل ذلك النصيب من المعرفة والمهارة والبراعة الجديدة التي يتم استخدامها لتحسين حقيقي للظروف البشرية، وبالمقابل، كم من المال يخصص للتدمير المطلق!” - جون ديزموند برنال

نحن مدينون بتطور العلم، كما في الجوانب الأخرى للحضارة، لعمل المجتمعات الطبقية، وهذه حقيقة تاريخية ومن غير المجدي تصور طريقة أخرى غيرها كان بإمكان العلم سابقاً أن يتطور بواسطتها، ولكن من الغباء أيضاً الافتراض بأن هذه الحال يجب أن تستمر تحت الرعاية نفسها (رعاية المجتمع الطبقي). لقد تركت لنا المجتمعات الطبقية بعض الأشياء الجميلة للغاية، لكنها تركت لنا أيضاً طرقاً سيئة للغاية للحصول على هذه الأشياء واستعمالها.

ضيق المصالح البرجوازية كمعرقل للعلم

هناك أمثلة عديدة أوضحتُ من خلالها أن المعيار الوحيد للتقدم التقني كان إما التطبيقات الناجحة في الحرب أو المربحة في السلم. في حين كان إنشاء تقنيات جديدة، السبيل الضروري الوحيد المتاح لتقدم العلوم.

في تاريخ الكيمياء والكهرباء بشكل خاص، لم يكن ممكناً أن تصبح مادة كيميائية جديدة أو جهاز كهربائي جديد أساساً لمزيد من التقدم العلمي، إلا عندما تظهر بشكل مواد تجارية، كان ذلك يتم غالباً بعد تأخيرٍ لسنوات عديدة عن تاريخ اكتشافها الأول!

وحتى إبان فترات التقدم في القرن التاسع عشر، كان الافتقار إلى الربح المتوقع هو ما منع الرأسماليين، قصيري النظر والمقيدين بالتقاليد، من النهوض بمشاريع جديدة إلا بعد اطمئنانهم بعد فترة طويلة بأنّها مربحة، رغم وضوح أنها مجدية تقنياً منذ البداية. وكانت حصيلة التأثير هي تأخير كبير وغير منتظم لتقدم العلم بالنسبة للإمكانات التي كانت متاحة.

الاحتكارات والضعف النسبي للابتكار

الآن، بعد أن أتيحت عمليات التطبيق العلمي في البحث الصناعي المنظم، قد يعتقد أن هذه التأخيرات ستصبح شيئاً من الماضي. في الواقع، رغم أن عقبة نقص رأس المال قد تم تذليلها مع تمركز رأس المال بمستويات أكبر، لكن يبدو أن هذا كان على حساب الحافز الذي كانت المنافسة تقدمه؛ بحيث أن الاحتكارات الكبرى، التي حلت محل العديد من الشركات المتنافسة، لا تبدو في عجلة من أمرها لإجراء ابتكارات جذرية. ويمكنني إعطاء أمثلة عديدة على ذلك. على سبيل المثال: رغم كون المبادئ الكامنة وراء إضاءة الفلورسنت كانت معروفة بالفعل حتى قبل ظهور المصابيح الفتيلية؛ ولكن كان لا بد من مرور أربعين عاماً قبل أن تجد الأبحاث دعماً رأسمالياً كافياً لجعلها ممكنة تجارياً. إن النجاحات الشهيرة للعلم الموجه احتكارياً، مثل التلفزيون، قد تعمينا عن الأشياء التي لم يتم تحقيقها من إمكانات التطبيقات العلمية، والمعروفة فقط لعدد قليل من العلماء والناس، الذين يرون جيداً مدى ضآلة استخدام الموارد الهائلة للمعرفة الفعلية، بسبب التوجيه الخاطئ والقيود المفروضة على كل شيء لا يعد بربح فوري. لقد تم، بطريقة أو بأخرى، إبعاد العلم عن خدمة عموم البشرية. وليست الأشكال الخاصة للمجتمعات الطبقية هي ما يقيد العلم، بل جوهر المجتمع الطبقي بالذات: استغلال الإنسان للإنسان.

الواقع الطبقي مترسخ بالأفكار

إنّ وجود المجتمعات المنقسمة طبقياً لا يؤثر فقط على النتائج المادية للمعرفة، بل يعمق رسوخها في الأفكار. الطبقة الحاكمة المستغِلة متعلمة ومثقفة، والأفكار الأساسية التي تجد تعبيراً عنها في الأدب والعلوم مشوبة حتماً بالتصورات المسبقة للطبقة الحاكمة وبتبريراتها الذاتية. في الوقت نفسه، فإن صندوق الخبرة العملية الذي يُكتَسب مع العمل اليومي، يحافظ على المجتمع كله معزولاً عن الآداب والمعرفة الأكاديمية.

لنلاحظ بأن فترات الإنتاجية الأكبر في الفنون والعلوم– كما في زمن الإغريق الأوائل وعصر النهضة والتنوير– كانت جميعها تلك التي أحدثت فيها جزئياً تداخلات عبر الحواجز الطبقية، ولو لفترة قصيرة نسبياً. في مثل هذه الفترات، يكون هدف الطبقة الصاعدة هو استيعاب معرفة القراءة والكتابة والثقافة والعلم، وبالتالي جعلها، عبر هذه العملية، متاحة بشكل أكثر عمومية.

كان الهدف من الفلسفة، كما بدا لليونانيين، هو تقديم وصف متماسك للكون بأسره، باستخدام النظام الذي كشفت عنه لتبرير النظام الاجتماعي (نظام الدولة- المدينة) على وجه الخصوص. كان النموذج الأفلاطوني، تماماً مثل الوسطية الأرسطية، عبارة عن تراكيب سياسية- علمية.

عندما فشل العقل، استُدعيَ الإيمان لمساعدته، إن لم يكن لتبريره، فعلى الأقل لجعل النظام الاجتماعي الظالم للإمبراطورية الرومانية مقبولاً، كخطوة إلى «الجنة». تراجع العلم مرة أخرى، ظل لفترة طويلة مقيداً بمذهب مدرسي (سكولاستي) كان الهدف الرئيس منه هو: التبرير مرة أخرى من الكتاب المقدس والعقل لأوجه القصور الجنونية والظلم الجسيم للنظام الإقطاعي.

كانت الخطوة الحاسمة، التي اتخذت في عصر النهضة، هي الفصل بين العالمين الروحي والمادي، وترك العلم الطبيعي حراً نسبياً بما يكفي ليتحول إلى ربح عملي، ولكن مع الأفكار التي لا تزال مستمدة من النظام اللاهوتي الفلسفي القديم. ومهما كانت كبيرة النجاحات المادية للعلم الجديد، فقد ظلت هذه الأفكار مغمورة بعمق، خلال المراحل المتفائلة المتقدمة للثورة الصناعية، وعادت إلى السطح مرة أخرى مع تلاشي النظام.

كما في الأزمنة السابقة، فإن الحاجة إلى فلسفة تبرر نظاماً غير مبرر جوهرياً للحكم الطبقي ينتج تشويهاً مثالياً للفلسفة. البعض منها هو تعريف ساذج للروحي، والمثل الأعلى، يناسب الطبقات العليا، ويستخدم لتغطية نظام المجتمع بالتعويض الإلهي. في شكل أكثر تعقيداً، تم اعتماده بشكل خاص في المسيحية، تم إضفاء الطابع الديمقراطي على الروحانية بشرط ترك السلطة والثروة، في «وادي الدموع» العلماني هذا، للسلطات الزمنية الثلاث، في الشكل الأكثر تطرفاً من الغيبية، تتم الدعوة إلى التراجع إلى عالم غير واقعي، ونتيجة لذلك يصبح غير ذي صلة بكيفية إدارته. هذه المقاربات شبه الدينية هي وسيلة للتغلغل بالنسيج الأساسي للعلم نفسه وإبعاده باستمرار عن العالم الحقيقي.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*عالم فيزياوي بريطاني شهير (1971-1901)

موقع “قاسيون” – 5 تموز 2021