هذه المقاطع عن دور المجرم في التاريخ هي التي دفعت ناقداً ومفكراً أدبياً مثل إدموند ولسون إلى استحضار عمل الهجّاء والساخر العظيم جوناثان سويفت الموسوم «اقتراح متواضع» والذي سعى فيه إلى مداواة بؤس أيرلندا بإقناع الفقراء الجائعين بالتهام صغارهم الزائدين. وهي وأمثالها ما دفع ولسون إلى تشبيه ماركس بصاحب (رحلات غاليفر): «أصبح ماركس من أكبر كتّاب السخرية. ومن المؤكد أنه أعظم كاتب ساخر، بعد سويفت، وفيه شبَه كبير منه»(1). وكتاب (رأس المال)، على نحو خاص، مفعم بالسخرية إلى درجة دفعت إدموند ولسون لأن يرى أن قيمة تجريدات ماركس هي قيمة تقوم على السخرية في المقام الأول، تلك السخرية التي تبرز إذ توضع بجوار مشاهد البؤس والفحش المروعة والموثقة جيداً مما تخلقه القوانين الرأسمالية عملياً وفي الممارسة. كما يعتبر ولسون كتاب (رأس المال) ضرباً من المحاكاة التهكمية الساخرة للاقتصاديين الكلاسيكيين، فما إن نقرأه حتى تكف الأعمال التقليدية في الاقتصاد عن الظهور لنا كما كانت تظهر من قبل: إذ يغدو بمقدورنا على الدوام أن نرى من خلال حججها وأرقامها وقائع العلاقات البشرية العارية الصريحة اذ يتمثل غرض تلك الأعمال أو مفعولها في إلقاء قناع عليها. ويعتقد ولسون أنه ما من أحد سبق له أن امتلك على هذا النحو المفرط مثل هذا التبصر السيكولوجي في قدرة الطبيعة البشرية اللامتناهية على البقاء نسّاءة ولا مبالية إزاء الآلام التي ننزلها بالآخرين حين تسنح لنا فرصة أن ننتزع منهم لأنفسنا شيئاً ما(2).

وإلى جانب ما سبقت الإشارة إليه من إمكانية قراءة (رأس المال) على أنه رواية قوطية يستعبد أبطالها ويستنزفهم وحش خلقوه بأنفسهم («رأس المال الذي يأتي إلى العالم ملوثاً من رأسه إلى أخمص قدميه بالدماء التي تنز من جميع مسامه»)، تمكن قراءته أيضاً على أنه ميلودراما فيكتورية، كما رأى ستانلي هيمان في دراسته (3) عن داروين وماركس وفريزر وفرويد بوصفهم كتاباً مبدعين والمنشورة عام ١٩٦٢، أو على أنه تراجيديا إغريقية: «فالفاعلون في إعادة ماركس تلاوة التاريخ الإنساني واقعون، مثل أوديب، في قبضة ضرورة لا تلين تتجلى وتتكشف مهما فعلوا»، كما يقول سي. فرانكل في كتابه (ماركس والفكر العلمي المعاصر)(4)، أو على أنه هزلية ساخرة سوداء (ففي فضح زيف «الواقع الشبحي» الذي تتسم به السلعة بغية تبيان الفارق بين المظهر البطولي والواقع المخزي، يستخدم ماركس إحدى الطرائق الكلاسيكيّة التي تستخدمها الكوميديا، حيث تجري تعرية الفارس الأنيق من دروعه ليتكشف في سراويله التحتانية عن رجل قصير وبدين)، كما تمكن قراءته على أنه يوتوبيا هجائية مثل بلاد الهوينوهمز (الجياد العاقلة) في رحلات غاليفر، حيث الأشياء جميعاً تبعث على السرور ما عدا الإنسان الشرير. ففي رواية ماركس عن المجتمع الرأسمالي، كما في الفردوس الزائف الذي أقامته الجياد في عمل جوناثان سويفت، تخلَق الجنة الزائفة من خلال الحط من قيمة البشر العاديين إلى منزلة الياهو العاجزين والمغتربين(5).

 

الأدب للانتقال من المظهر إلى الجوهر

الهجاء عند ماركس أسلوب وشكل كتابة قديم. فكتاباته الصحافية تتسم بقتالية متهورة تفسر قضاءه معظم حياته الراشدة في المنفى وفي عزلة سياسية. فأول مقالة كتبها في الجريدة الرينانية كانت هجوماً جارحاً على ما اتسم به الحكم البروسي المطلق من انعدام للتسامح وما اتسم به خصومه الليبراليون من بلاهة وحمق. ولم يكتفِ بما أوجده من أعداء في الحكومة والمعارضة على حد سواء، فانقلب على رفاقه أيضاً، واتهم الهيغليين الشباب بأنهم «أفظاظ وأوغاد». ولم يمضِ شهران على توليه مسؤولية تحرير الجريدة، حتى طلب حاكم الإقليم من وزير الرقابة في برلين أن يقاضيه على «نقده الوقح الصفيق». بل إن القيصر الروسي نيكولا شخصياً رجا ملك بروسيا أن يوقف الجريدة الرينانية، التي أثارت سخطه بنقدها الساخر والعنيف لروسيا. وفي آذار من العام 1843 أغلقت الجريدة في الوقت المناسب. وهكذا كان ماركس قد امتلك في الرابعة والعشرين من عمره قلماً قادراً على ترويع رؤوس أوروبا المتوّجة وإثارة غيظها. أما بالنسبة إلى كتبه، فنجد أن (بؤس الفلسفة) هو خطبة لاذعة في ١٠٠ صفحة يقرّع فيها بيير جوزيف برودون، وأن أبطال المنفى هو أهجية مطنبة لـ «أبرز حمير» الشتات الاشتراكي و«أوغاده الديمقراطيين»، والتاريخ الدبلوماسي السري للقرن الثامن عشر هو خطبة عنيفة وطويلة ضد روسيا، وقصة حياة اللورد بالمرستون محاولة لإثبات أن وزير الخارجية البريطاني كان عميلاً للقيصر الروسي، و«الهر فوغت» هجوم كاسح على أستاذ للعلوم الطبيعية في جامعة بيرن أثار حنق ماركس إذ وصفه بالدجال والطفيلي. وردّ ماركس: «واحدة بواحدة، والانتقامات تجعل العالم يدور».

وبعد الانقلاب الفرنسي في تشرين الأول ١٨٥١، كتب ماركس (الثامن عشر من برومير لويس بونابرت) الذي وصفه فيلهلم ليبكنخت بأنه «سهم منطلق مباشرة نحو الهدف ومنغرز في الجسم... رمح تطلقه يد ماهرة ويصيب العدو في القلب... كلماته سهام ورماح، وأسلوبه يصم ويقتل. وإذا ما كان الحقد والاحتقار والشغف بالحرية قد وجدت تعبيراً عنها بكلمات حارقة وفاتكة وشامخة، فإن ذلك في هذا الكتاب الذي يجمع بين صرامة تاسيتوس الساخطة ونكتة جوفينال القاتلة وغضب دانتي المقدس». وهو إذ يقارنه بعمل فيكتور هوغو «نابليون الصغير» الذي يتناول الموضوع ذاته، يجد هذا الأخير «رغوة سطحية زاهية الألوان» وأنه على الرغم من صدوره بطبعات عديدة الواحدة تلو الأخرى، هو الآن منسي، في حين سوف يُقرأ (الثامن عشر من برومير) لماركس بكل إعجاب لآلاف السنين(6).

كانت العداوات والجدالات عند ماركس تدخلات سياسية أساسية لا مجرد تجليات للغضب والاستياء. وأبعد وأرفع من ذلك بكثير كان الهجاء والسخرية تقنيتين تزيحان الواقع الظاهر بغية الكشف عن أسراره الأثيمة. ويبقى السؤال الأهم هو ما الصلة بين خطاب ماركس الأدبي، لا سيما الساخر والهجّاء، وما أراد أن ينجزه من مهمات نظرية وفكرية؟ سبق لماركس أن قال إنه لو تطابق جوهر الأشياء ومظهرها لانتفى العلم وأصبح مستحيلاً. والأدب عند ماركس، عدا عن كونه إبداعاً وإمتاعاً، هو مثل العلم، وسيلة ندلف بها من المظهر إلى الجوهر، من الفهم الشائع أو ما يدعى خطأ بالحس السليم إلى حقيقة الأشياء، إلى حقيقة أن الأرض هي التي تدور حول الشمس وليس العكس، وأن الماء يتألف من غازين قابلين للاشتعال.

وفي مثل هذه القراءة، لا يعود الأسلوب الأدبي الذي يتبناه ماركس قشرة خارجية ملونة توضع فوق لوح العرض الاجتماعي الاقتصادي التاريخي الذي كان سيبدو منفّراً لولاها، بل يغدو لغة ملائمة، وحيدة في بعض الأحيان، للتعبير عن «طبيعة الأشياء الخادعة»، ومشروعاً كيانياً (أنطولوجياً) لا يمكن تقييده بحدود وأعراف جنس قائم كالاقتصاد السياسي، أو الأنثروبولوجيا، أو التاريخ. وباختصار، فإن الأدب بعد أساسي من أبعاد فهم ماركس المادي للتاريخ، وهو بذلك مدخل لتلقّي ماركس لا غنى عنه، الأمر الذي يقتضي تمحيصاً أوفى لمفاعيل المفارقة الساخرة  وآثار التهكم والهجاء كصنعات أدبية.

 

هوامش

1.إدموند ولسون، تاريخ الفكر الاشتراكي المعاصر من فيكو إلى لينين، ترجمة يونس شاهين - بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1973، ص 255.

2.المصدر ذاته، ص 257 - 258

3..Stanley Edgar Hyman,The tangled bank: Darwin, Marx, Frazer and Freud as imaginative writers (New York: Atheneum, 1962)

4.المصدر ذاته، ص 103

5.المصدر ذاته

(6) ولهلم ليبكنخت، «من ذكريات عن ماركس»، في (كارل ماركس وفريدريك إنجلز في ذكريات معاصريهما)، ص 305 – 306

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

“الاتحاد” الحيفاوية – 26 آذار 2021

عرض مقالات: