إن الصراع السياسي، في مناوراته وتكتيكاته، لا يتحرك بحرية حسب إرادة أصحاب من يقوم به، لا على مستوى القوى الثورية، ولا على مستوى النقيض المحافظ والرجعي. فكلا النقيضين محكومان بالقضايا المادية التي حولها يدور هذا التكتيك أو ذاك، هذه المناورة أو تلك. ولذلك، فإن البحث عن جذر تطور التكتيك والمناورة لا بد وأن يجري على مستوى التطور التاريخي للقضايا الصراعية نفسها. ونحن اليوم أمام تيار رجعي لا يجد حرجاً، بل لا يجد مهرباً، من أن يلبس لباس الموقع الثوري، أو بالأحرى، يتخذ من ملامح هذا الموقع أدوات لمناورته. ليس هذا بالجديد التاريخي، ولكنه يكتسب اليوم عمقاً أبعد مما سبق.

تطور القضية التاريخي

أشار إنجلز نفسه إلى هذا النوع من المناورات التي يقوم بها الفكر الرجعي المحافظ السلطوي. فالعدو الطبقي- الأيديولوجي عندما يخسر من مواقعه، على أساس تقدم الخيار التقدمي الثوري في سياق عملية الصراع، يقوم الفكر السلطوي بمناورة الانتقال إلى مواقع الفكر المتقدم، ويقوم بتشويهه من الداخل. هكذا فعل الفكر الاشتراكي الديمقراطي عندما لبس لبوس الماركسية محاولاً ضربها من داخلها. ومع تعاظم حدة الصراع، أي: كلما فرض الواقع المادي ضرورة سير المجتمع في خيار ما، اشتدت أزمة الفكر الرجعي السلطوي. فهوامش تكتيكه ومناورته تضيق وتتقلص مع اشتداد حدة القضية في وجودها الواقعي. فما بالنا اليوم حيث تشتد أزمة النظام الرأسمالي عالمياً على كل المستويات !؟ كيف يمكن للفكر المعبر عن هذا النظام أن يبقى قادراً على التعبير عن نفسه انطلاقاً من مواقعه الصريحة؟ هو محكوم إذن بممارسة عملية انتحال صفة، وبالتحديد، إجراء عملية تنكرية. وهنا أزمته بالذات التي تصير فاقعة كلما سار الصراع محكوماً بضرورته المادية التي لا يمكن للفكر المتنكر، ومهما تنكر، أن يتجاهل صوابيّة القضية التي تحمل في ذاتها طريقة حلها كما أشار ماركس، إن السؤال يحمل في ذاته الإجابة، أو قاعدة الإجابة نفسها.

التناقض بين المواقع لا مهرب منه

بسبب ضيق وتقلص هوامش المناورة والتكتيك لدى الفكر السلطوي الرجعي، فانه يقع في تناقض صريح وفاقع. فهو من جهة يتخذ موقفا من الطرف النقيض لعملية التغيير، ولكنه وخلال ذلك، يلبس لباس موقع عملية التغيير نفسها. وهذا يحصل في ذات اللحظة التاريخية. هو يدعي بأنه يتبنى القضايا المحقة والضرورية، ولأن هدفه ضرب عملية التغيير، والتشويش عليها وتشويه الخصم التقدمي وعملية التغيير بشكل عام، فهو في تبنيه هذه القضايا يكون هدفه ضد القضية نفسها. إذن ليست قضية التغيير هي التي تتضح فقط كلما اشتدت حدة الأزمة، بل إن أهداف الخصم تتضح أيضاً، فبالنقيض يكون النقيض. فلا يخفى على أحد اليوم أن القضايا السياسية المطروحة عالمياً لم يعد من الممكن تغطية أهدافها. فعدما نسمع كلاماً عن رفض قوى رأس المال المالي لأية عملية مسّ بأسس النظام العالمي الرأسمالي، بعد أن كانت هذا القوى تغطي خطابها بتمويهات مختلفة. لا يخفى على أحد اليوم أن خطاب قوى السلطة في بعض المجتمعات يعلن جهاراً نيته الدفاع عن الملكية الخاصة. هكذا إذن، فإن الأزمة نفسها، ولأنها تطرح كيفية حل جذر الأزمة نفسها، تفرض على القوى المتصارعة أن تعلن عن أهدافها. هكذا إذن، يدخل الفكر في تناقض لا يمكن حلّه، بين أهدافه التي صار مجبراً أن يعلنها (أو على الأقل أن يعلن أساس أهدافه ونقطة وصولها النهائية) صراحة، وبين أدواته وتكتيكاته ومناوراته.

أمثلة حالية

سنقف عند بعد المواقف التي يتخذونها كمدخل للهجوم، ومنها مثلاً: موقفهم المهاجم للآخرين حول التعاطي مع الكيان الصهيوني. إن الموقع الحالي لهؤلاء هو موقع التسليم بدور الكيان، أي: الحفاظ على مواقع رأس المال العالمي والنظام الإمبريالي نفسه. فهؤلاء الذين يهاجمون غيرهم بحجة أن هذا الغير غير جدي في قضية الصراع مع الكيان الصهيوني، هم أنفسهم ينطلقون من موقع التسليم بالرأسمالية العالمية ومواقع الغرب في تقرير السياسة العالمية. وهم ينطلقون عملياً من هذا الموقع تمويلياً ووظيفياً. فهم يطلبون ما لا يقومون به أساساً، بل يقومون بعكسه. هذا هو التناقض نفسه. فهم يتهمون بعض القوى باستغلال قضية المقاومة، في حين أنهم ليسوا بمقاومين، بل يدعون إلى الاستسلام «المستدام». فهم خارج الصراع الذي يتهمون الآخرين بممارسة الخداع حوله. هم موافقون على النظام العالمي كما هو اليوم. وهنا نقطة الانطلاق التي يجب أن تحكم الموقف منهم. فكيف لقوى لا تطرح قضية تغيير النظام العالمي، أن تحمل قضايا تتعارض في جوهرها مع وجود هذا النظام؟! فالحملة الأخيرة التي قام بها بعض الناطقين باسم هذا التيار المتنكّر للهجوم على رموز وطنية هي حملة مثيرة للسخرية، فإذا ما أردنا ألا نأخذ موقف الدفاع عن هذه الرموز بالذات، بل موقف الهجوم على أصحاب الحملة، يكفي أن نذكر أنهم في الموقع نفسه الذي يتهمون الآخرين أنهم فيه. فما هو المشروع الذي يرفعه هؤلاء؟ إنه موقف الدفاع عن النظام العالمي القائم، الدفاع عن الرأسمالية العالمية وعنها كنمط حياة. والباقي هو جزء من حفلة التنكّر هذه. إنهم محكومون برفع القضية التي هي موضع الصراع، وهنا تناقضهم. فأزمة هذا الفكر في مختلف أوجهه إن كان يلبس لبوس الفكر القومي، أو اليساري، أو غيرهما، هي أزمة حادة لدرجة أنه يخوض معركته بأدوات معادية له نفسه. فالتاريخ نفسه، بمعنى القاعدة المادية للصراع، أي الاقتصاد السياسي نفسه، أغلق هوامش مناورة هذا الفكر، أو ضيّقها إلى أبعد الحدود. ومن هنا خداعه الظاهر وتنكّره الفاشل. وهذا ينسحب ليس فقط على قضية الموقف من الكيان، بل على كل القضايا المطروحة على الساحة العالمية.

هذه الوقاحة هي تعبير عن التناقض الذي يعيشه هذا الفكر بين موقعه وبين التكتيك الذي يحاول سلوكه. تناقض لا مهرب له منه. فهو يستخدم في هجومه قضايا هو معادٍ لها من الأساس، هو معاد لقضايا التحرر بسبب موافقته النهائية على النظام الرأسمالي العالمي. ومن يريد المزايدة، عليه أن يتقدم عن غيره. ولكن، ليس لوقاحة هذا الفكر حدود، في مرحلة أزمته العميقة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

صحيفة “قاسيون” – 17 أيار 2021

عرض مقالات: