دعونا نعود إلى ما كانت عليه الأمور في العام ١٩٧٩، عام وصول مارغريت ثاتشر إلى السلطة ومباشرتها الثورة الليبرالية في بريطانيا. كانت «المرأة الحديدية» هي ذاتها من تلامذة فريدريش فون هايك، ومن أتباع الداروينية الاجتماعية، ولم تكن تخجل من المجاهرة بقناعاتها. عرفت بأنها تبرر برنامجها بكلمة واحدة TINA وترجمتها «لا يوجد بديل». إن القيمة المركزية في عقيدة ثاتشر والنيوليبرالية هي فكرة المنافسة – المنافسة بين الأمم والمناطق، والشركات وبين الأفراد طبعا. والمنافسة مركزية لأنها تفصل الغنم عن الماعز، الرجال عن الصبيان، والأقوياء عن الضعفاء. والمفترض أنها توزع كافة الموارد، أكانت مادية أم طبيعية أم بشرية أم مالية بأعلى قدر ممكن من الفاعلية.
وعلى العكس من ذلك، ختم الفيلسوف الصيني الكبير لاو تزو كتابه «تاو–تي تشينغ» بهذه الكلمات «فوق كل شيء آخر، لا تنافسوا». الفاعلون الوحيدون في العالم النيوليبرالي الذي يبدو أنهم عملوا بنصيحته هم كبار الفاعلين قاطبة، أي كبريات الشركات عابرة للجنسيات. فمبدأ المنافسة بالكاد ينطبق عليهم، إنهم يؤثِرون ممارسة ما يمكن تسميته «رأسمالية التحالف». وليس صدفة أن ثلثين إلى ثلاثة أرباع الأموال المسماة «استثمارا خارجيا مباشرا»، حسب الأعوام، ليست مكرسة لاستثمارات جديدة تخلق الوظائف، وإنما لعمليات «دمج واستملاك» تنتهي دوما بصرف موظفين من أعمالهم.
لأن المنافسة دائما فضيلة، لا يمكن لنتائجها أن تكون سيئة. بالنسبة للنيوليبرالي، السوق حكيم إلى درجة أنه مثل الله تعالى: إنه «اليد الخفيّة» التي يمكنها اجتراح الخير من الشر المحقق. هكذا قالت ثاتشر ذات خطاب: «إنه من مهمتنا أن نمجد اللامساواة وأن نحرص على إطلاق المواهب والقدرات وتحرير طاقاتها التعبيرية لصالح الجميع». بعبارة أخرى، لا تكترثوا بالذين يبقون في مؤخرة ميدان الصراع التنافسي. البشر غير متساوين بحكم الطبيعة. ولكن هذا للخير لأن مساهمات أبناء الأسر الوجيهة، والأوفر حظا في التعليم والأقوى سوف تفيد الجميع. لا شيء يستحقه الضعفاء وذوو التحصيل التعليمي المتواضع، وما يجري لهم هو بسببهم وليس أبدا بسبب المجتمع. إذن إن «إطلاق سراح» نظام المنافسة، على قولة مارغريت ثاتشر، هو الأفضل للمجتمع. من أسف أن تاريخ السنوات العشرين يعلمنا أن ما جرى هو العكس تماما.
في بريطانيا قبل عهد ثاتشر، كان حوالي شخص واحد من عشرة يصنف على أنه يعيش تحت خط الفقر، لم يكن ذلك سجلا باهرا لكنه مشرف بالقياس لسائر الأمم وأفضل مما كان عليه الوضع قبل الحرب. والآن شخص واحد من أربعة، وطفل واحد من ثلاثة أطفال، معلن عنه رسميا أنه فقير. هذا هو معنى البقاء للأقوى: الناس الذين لا يستطيعون تدفئة بيوتهم في الشتاء، المضطرون أن يضعوا قطعة معدنية في العدّاد قبل أن تكون لهم كهرباء ويكون لهم ماء، والذين لا يملكون معطفا واقيا من المطر، إلخ. إني أستخدم هذه الأمثلة من تقرير العام ١٩٩٦ لـ«مجموعة العمل عن فقر الأطفال البريطانيين». وسوف أمثّل بنتيجة «الإصلاحات الضريبية» للثنائي ثاتشر- ميجر بمثال واحد. في الثمانينيات، كان واحد بالمئة من دافعي الضرائب يحصل على ٢٩ في المئة من جميع فوائد الحسوم الضريبية، بحيث إن شخصا يكسب نصف معدل الأجر العام يجد أن ضرائبه قد ارتفعت بنسبة ٧ في المئة في حين أن شخصا يكسب عشرة أضعاف معدل الأجر العام ينال تخفيضا بنسبة ٢١ في المئة.
والمدلول الآخر للمنافسة بما هي القيمة المركزية للنيوليبرالية هو وجوب تقليص القطاع العام بقسوة لأنه لا ولن يطيع القانونَ الأساس وهو المنافسة قصد الربح وانتزاع حصة من السوق. والخصخصة واحدة من التحولات الاقتصادية الكبرى في العشرين سنة الأخيرة. بدأ التيار في بريطانيا وانتشر في سائر أجزاء العالم.
الخصخصة وكسر النقابات
دعوني أبدأ بالسؤال: لماذا كان للبلدان الرأسمالية، خصوصا في أوروبا، خدمات عامة أصلاً ولماذا لا تزال لديها مثل تلك الخدمات؟ في الواقع، تشكل معظم الخدمات العامة تقريبا ما يسميه الاقتصاديون «احتكارات طبيعية». يوجد احتكار طبيعي عندما يكون الحجم الأدنى لتأمين الحد الأقصى من الفاعلية الاقتصادية مساويا للحجم الفعلي للسوق. بعبارة أخرى، على شركة ما أن تكون بحجم معين لتحقق وفورات القياس فتقدم بالتالي أفضل خدمة ممكنة بأقل كلفة ممكنة للمستهلك. وتتطلب الخدمات العامة استثمارات كبيرة جدا في البداية، مثل خطوط سكك الحديد أو شبكات توصيل الطاقة – ما لا يشجع على المنافسة هو أيضا. لهذا كانت الاحتكارات العامة الحلّ الأمثل البديهي. على أن النيوليبراليين يعرّفون كل شيء عمومي على أنه «غير فعال» بالضرورة.
فما الذي يحصل عند خصخصة احتكار طبيعي؟ بشكل طبيعي وعادي يتجه المالكون الرأسماليون الجدد إلى فرض أسعار احتكارية على الجمهور ويجنون الأرباح الوفيرة لأنفسهم. يسمي الاقتصاديون الكلاسيكيون هذه النتيجة «فشلا سوقيا بنيويا» لأن الأسعار أعلى مما يجب أن تكون، والخدمة المقدمة للمستهلك ليست بالضرورة جيدة. من أجل الحيلولة دون حالات الفشل السوقية البنيوية، أوكلت البلدان الرأسمالية في أوروبا، بمجموعها تقريبا، البريد والاتصالات الهاتفية والكهرباء والغاز وسكك الحديد وقطارات الأنفاق والنقل الجوي، وفي العادة خدمات أخرى مثل الماء ورفع النفايات إلخ، إلى احتكاراتٍ تملكها الدولة. استمرت هذه الحالة إلى الثمانينيات من القرن الماضي. وكانت الولايات المتحدة الاستثناء الأكبر من هذه القاعدة، ربما لأنها كانت ضخمة جغرافيا بما لا يسمح لها باعتماد الاحتكارات الطبيعية.
في كل الأحوال، عزمت مارغريت ثاتشر على تغيير كل هذا الوضع. والفائدة الإضافية من ذلك هي استخدام الخصخصة لكسر قوة النقابات العمالية. بتدمير القطاع العام بما هو أقوى قلاع النقابات، تمكنت من إضعافها على نحو حاسم. وهكذا بين ١٩٧٩و١٩٩٤ انخفض عدد الوظائف في القطاع العام في بريطانيا بين ٦ ملايين و٧ ملايين وظيفة، أي بنسبة ٢٩ بالمئة. وكانت كل الوظائف التي ألغيت عمليا وظائف شاغلوها منضمون إلى النقابات. ولما كان التوظيف في القطاع الخاص راكدا خلال تلك السنوات الخمس عشرة، بلغ الرقم الإجمالي للانخفاض في الوظائف البريطانية ١،٧ مليون، أي بنسبة ٧ بالمئة بالمقارنة مع العام ١٩٧٩. ففي عُرْف النيوليبراليين أن قلة عدد العمال أفضل من كثرتهم لأن العمال يقتطعون من عائدات أصحاب الأسهم.
أما بالنسبة للآثار الأخرى للخصخصة، فقد كانت متوقعة وقابلة للتوقع. لجأ مدراء المنشآت التي تعرضت للخصخصة حديثا، وقد حافظ معظمهم على مناصبهم، إلى مضاعفة أجورهم بمعدل ضعفين أو ثلاثة أضعاف. واستخدمت الدولة أموال دافعي الضرائب لتصفية ديون المنشآت وإعادة رسملتها قبل إنزالها إلى السوق. فمثلاً، تلقت شركة الماء اقتطاعا من ديونها قدره خمسة مليارات جنيه إضافة إلى ١،٦ مليار سمّي «المَهر الأخضر» لجعل العروس أكثر جاذبية للمشترين المحتملين. أثير الكثير من الضجة في أوساط العلاقات العامة حول كيف تقرر أن يملك صغار المساهمين حصة في تلك الشركات، وبالفعل اشترى ٩ ملايين بريطاني أسهما فيها، لكن نصفهم وظّف أقل من ألف جنيه، ومعظمهم ما لبث أن باع أسهمه في مهلة سريعة نسبيا حالما استطاعوا قبض الأرباح المباشرة.
يستطيع المرء أن يرى من تلك النتائج أن الفكرة الأساسية من الخصخصة ليست الفاعلية الاقتصادية ولا تحسين الخدمات للمستهلك وإنما هي نقل الثروة من الخزينة العامة – القابلة لأن توزعها للتخفيف من الفوارق الاجتماعية – إلى أيدي الخاصة. لقد اشترى موظفو «بريتيش تيليكوم» واحدا بالمئة من أسهم الشركة فقط، وموظفو «بريتيش آيروسبيس» ١،٣ بالمئة، إلخ. قبل هجوم السيدة ثاتشر، كان قسم كبير من القطاع العام في بريطانيا يحقق الأرباح. ففي العام ١٩٨٤، أسهمت الشركات العامة بما يزيد على ٨ مليارات جنيه إلى الخزينة. إن كل هذا المال يذهب الآن إلى مساهمين أفراد. والخدمة في الصناعات المخصخصة كارثية أحيانا، فقد كتبت الـ«فاينانشال تايمز» عن اجتياح الفئران لنظام «مياه يوركشاير»؛ ومن استقل قطارات شركة «ثايمز» ولا يزال على قيد الحياة يستحق نيل وسام.
لقد طُبّقت الآليات ذاتها حرفيا في سائر أنحاء العالم. في بريطانيا، كانت «مؤسسة آدم سميث» الشريكَ الفكري لاختراع أيديولوجية الخصخصة. وقد استخدمت «مؤسسة الولايات المتحدة للاستثمار والتنمية» «USAID» والبنك الدولي خبراءَ «مؤسسة آدم سميث» للترويج لعقيدة الخصخصة في بلدان الجنوب. وبحلول العام ١٩٩١، كان البنك قد قدم ١١٤ قرضا لتسريع العملية، وفي كل عام كانت هيئة «التنمية المالية الكونية» التابعة له تنشر جداول المئات من أعمال الخصخصة المنفذة في البلدان التي تقترض من البنك.
أقترح أن نتوقف عن الحديث عن الخصخصة وأن نستخدم المفردة التي تقول الحقيقة: إننا نتحدث عن «نزع ملكية» وتسليم نتاج عقود من العمل بذلها آلاف الأشخاص إلى أقلية قليلة من كبار المستثمرين. هذه هي أكبر عملية سرقة بالقوة في جيلنا أو أي جيل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*عالمة اجتماع وسياسة ومناضلة أميركية
موقع مجلة “بدايات” – العدد 30 - 2021