بعد لقائهما السريع في مدينة كولون في أواخر عام 1842، توجه انجلز الى إنكلترا ليعمل كاتبا في مصنع النسيج الذي يملكه والده شراكة مع أحد الأصدقاء، في حين ظل ماركس يعمل محررا في الصحيفة الرينانية. وكان الصراع داخل حركة الهيغليين الشباب في أوجه، وبسببه تولدت فكرة الكتابة عن أهمية دراسة الاقتصاد السياسي الذي «ظهر كنتيجة طبيعية لانتشار التجارة»، هذا الاقتصاد الذي يصفه انجلز بأنه «علم الإثراء». وضرورة فضح النظريات التي تبرره ومنها نظرية السكان للكاهن توماس مالثوس.
بدأ انجلز كتابة عمله (خطوط أولية لنقد الاقتصاد السياسي) في أواخر عام 1843 وانتهى منه في كانون الثاني 1844، ونشره لأول مرة باللغة الألمانية في الحوليات الفرنسية – الألمانية عام 1844. ورغم أننا تطرقنا سابقا الى بعض المفاهيم الواردة في هذا العمل، يبقى من المهم التأكيد على بضع نقاط:
أولا: يمثل المؤلف أول عمل اقتصادي في الأدب الماركسي؛ فبفضله انتبه ماركس الى ضرورة دراسة الاقتصاد السياسي وهو الموضوع الذي كرس جزءا كبيرا من حياته له.
ثانيا: يمكن اعتباره من اهم ما يجب ان يطلع عليه كل قارئ يرغب في فهم أساسيات الاقتصاد السياسي، والإمساك بأهم مفاهيمه: النظام التجاري، الثروة الوطنية، القيمة، العمل، الاحتكار، المزاحمة، الربا وغيرها، إذ يوفر انجلز لنا شرحا مبسطا لهذه المفاهيم مقرونا بأمثلة من التاريخ والواقع المعاش.
ثالثا: انه العمل الأول الذي يتطرق الى الطبيعة بمعناها الإيكولوجي (أي علاقتها بالإنسان) عندما ادخلها في عملية حساب تكاليف إنتاج البضاعة. وهو أول من أشار الى ان الإنسان باعتباره أحد «عنصري الإنتاج» يجب ان يؤخذ لا بخواصه البدنية فقط، بل بخواصه الفكرية أيضا – أي قدرته على الاختراع – الفكر.
يكتب انجلز حول مفهوم الثروة الوطنية مثلا: «لا معنى لهذا المفهوم مادامت الملكية الخاصة قائمة» ومثاله عن بريطانيا شبيه بمثالنا، فثروة العراق الوطنية «عظيمة» لكننا أفقر الشعوب! ويصف عملية الربا بأنها غير أخلاقية وان الناس يعرفون ذلك بوعيهم الفطري لكنهم يجهلون ان جذور الربا تكمن في الملكية الخاصة.
القسم الثاني يكرسه انجلز لفضح نظرية الكاهن مالثوس عن السكان، فماذا كان يقول مالثوس؟
يزعم مالثوس «ان السكان يضغطون دائما على وسائل العيش، وان عدد السكان يتزايد بقدر ما يتزايد الإنتاج، وان الميل الملازم للسكان الى التكاثر أكثر من وسائل العيش المتاحة لهم هو سبب الفقر كله.... وحيثما يتواجد عدد كبير من السكان يتوجب قتلهم بالعنف أو تركهم يموتون جوعا.. وهذا ينطبق في جميع الظروف». في هذا الإطار يقول انجلز إذن علينا القول بان «الأرض كانت فائضة السكان حتى عندما لم يكن يوجد[عليها] سوى إنسان واحد!»، ثم يضيف انجلز وفقا للكاهن مالثوس «بما ان الفقراء تحديدا هم الفائضون، لا يتعين فعل أي شيء من أجلهم سوى تسهيل موتهم جوعا... وإقناعهم بأنه يستحيل تغيير أي شيء في هذا الصدد».
على هذا الأساس يتساءل انجلز «هل يتعين عليّ ان أعرض المزيد لهذا المذهب الخسيس، السافل، هذا التجديف الكريه على الطبيعة والبشر؟» ان جوهر نظرية مالثوس عن السكان يكمن في مفهومها الديني عن الطبيعة فهي «التعبير الاقتصادي عن الدوغما الدينية... وكانت أيضا محاولة لدمج اللاهوت البروتستانتي مع الحاجة الاقتصادية للمجتمع الرأسمالي الجديد. وتظهر النتيجة البشعة، المباشرة، للملكية الخاصة في «تقسيم العمل الى جانبين متضادين: الجانب الطبيعي والجانب الإنساني، أي الأرض التي هي ميتة وقاحلة إذا لم يحرثها ويخصبها الإنسان، والنشاط الإنساني الذي تكون الأرض شرطه الأول والأساسي».
ان المجتمع الرأسمالي يدفع بالسكان خارج أرضهم ليجعلها ملكية خاصة لحفنة من الناس مما يمهد الطريق لاستغلال أشد قسوة لجانبي عملية الإنتاج: الطبيعي والإنساني. «ان جعل الأرض، التي تشكل بالنسبة لنا كل شيء، التي هي الشرط الأول لوجودنا، موضع متاجرة، قد كان الخطوة الأخيرة الى المتاجرة بأنفسنا... أن احتكار الأرض من قبل عدد قليل من الأفراد، وحرمان البقية من الشرط الأساسي لحياتهم، لا يختلف البتة من حيث لا أخلاقيته عن المتاجرة بالأرض».
ويمكن القول بأن السمة اللاتاريخية لنظرية الكاهن مالثوس تمثلت في رفضها فكرة التطور، ورفضها لإمكانية التقدم في مسألة زراعة الأرض أو في تربية الحيوانات، وكل إمكانية للتقدم الاجتماعي. وهذا ما رفضه انجلز خصوصا وهو يشهد التطور الحاصل في العلوم خلال القرن الثامن عشر، وتحديدا التطور في علم التربة، حيث أشار الى النجاحات التي حققها السير همفري ديفي (عالم كيمياء انجليزي) ويوستوس ليبيخ (عالم كيمياء ألماني).
القضية الهامة التي يجب الانتباه لها هي إشارة انجلز الى دور العلم الذي أهمله الكاهن مالثوس في جميع حساباته، وحسبنا رؤية الطفرات العملاقة التي حصلت خلال العقود الماضية في جميع الميادين العلمية. ونخلص الى أن مزاعم الكاهن مالثوس التي تقول بأن الفقر هو نتاج لقانون طبيعي أو لحكمة ربانية هي مزاعم كاذبة وباطلة، إنها بسبب «قانون الإنسان الذي يقف بالضد من قانون الطبيعة».
في عام 1844 بدأ ماركس أيضا وبتأثير من مؤلف انجلز بتوجيه سهام نقده الى نظرية مالثوس، حيث كان مهتما بالكيفية التي جرى فيها الهجوم على قانون الفقراء الإنجليزي الذي استند على فكرة «القانون الداخلي للطبيعة، وهو ما ينسجم مع نظرية مالثوس». ففي هذه النظرية لم تكن «حالة الفقر والإملاق المتواترة نتيجة حتمية للصناعة الحديثة» بل بسبب «قانون الفقراء الإنجليزي» فالعلة حسب مريدي مالثوس تكمن في قانون الضمان الاجتماعي، ولهذا السبب جرى تعديل القانون ليرفع عن كاهل الحكومة مسؤولية مساعدة الفقراء.