الخروج من المعتقل

جاءت سيارة الأمن الى المستشفى وتم شحني على عجل فيها وإصدار أمر إخراجي من المستشفى، وتوجهت سيارتهم الى مديرية أمن البصرة وهناك أدخلوني على ضابط الأمن أحمد الخفاجي الذي لعب دور حاكم التحقيق الذي يزمع إصدار أمر إطلاق السراح بكفالة فطلب مني رقم تلفون الكفيل فأعطيته رقم تلفون المرحوم أخي محمد الذي اتصل به الخفاجي طالبا منه المجيء وعمل كفالة لي لإطلاق سراحي والذي قاله الخفاجي للمرحوم أخي "تعال خلصنا من أخوك" وأعطى معلومات عن القادم الى حرس الباب ليدخل ويعمل الكفالة ويطلق سراحي بعدها ، ولقد شعرت بالفخر عندما طلب الخفاجي من أخي تخليصهم مني، لأن المتبع إن الذي يخرج من التوقيف هو الذي يخلص منهم ومن أساليبهم، لا العكس .

ما الذي دفعهم لهذا الإجراء؟

في 19 من شهر تشرين أول سنة 1977م قام الرئيس المصري بزيارة الى إسرائيل والقى خطاباً في الكنيست الإسرائيلي، أعقبها توقيع اتفاقية كامب ديفيد بين مصر السادات وإسرائيل في 19 من شهر أيلول من عام 1978م، فأعلنت الدول العربية رفضها لهذه الاتفاقية ، وكانت حكومة العراق أشد هذه الدول رفضا للاتفاقية ، وتم تبني موضوع عقد قمة عربية لإصدار موقف عربي موحد من هذه الاتفاقية، فعقدت القمة في بغداد في 2 - 5 تشرين أول من عام 1978م كان هذا العامل الى جانب حملة التضامن مع حزبنا عالميا وعربيا جعل البعثيين يتخوفون من الضغط عليهم من قبل الوفود القادمة الى بغداد ومن الصحافة من فتح موضوع المعتقلين من الشيوعيين في معتقلاتهم، وكان خوفهم أشد من الرأي الذي تكوّن في المستشفيات ومن حالات المحاججات العلنية فيها ومن الإدانة لهذه الاعتقالات، فقرروا إطلاق سراحنا لفترة مؤتمر القمة والعودة الينا بعد انفضاض القمة وهذا ما حصل.

جرت احتفالات واسعة ابتهاجا بإطلاق سراحنا وكان أبناء محلتنا يتنافسون فيما بينهم لإظهار فرحتهم تلك وبناء على توصيات رفيقنا الدكتور سالم المهدي الرفيق ابو جماهير في كيفية العودة الى الحياة الطبيعية وتنظيم الأكل بعد هذه الفترة الطويلة من الإضراب عن الطعام قدم لي كوب من الحليب وقطعة بسكوت وحال وصول الطعام للمعدة سقطت مغميا عليّ وسط الجموع المكتظة في بيتنا فتعالى صراخ النساء وصاحت إحداهن مات الولد وسرت هذه الكلمة سريان النار في الهشيم وركض أخي أمجد الذي استشهد فيما بعد الى عيادة الرفيق الدكتور ابو جماهير الذي جاء على جناح السرعة وعمل الإجراءات اللازمة، في هذه اللحظات كان رجال الأمن المنبثون في محلتنا وأمام البيت سارعوا بنقل خبر موتي الى رؤسائهم، وكانت فرحتهم لا توصف .

مساءا إستعدت عافيتي ونقلوني الى سطح المنزل الذي كان مكتظا بالزائرين من الرجال الذين إبتهجوا بعودتي الى وضعي العادي وشجعني الدكتور على تناول كميات قليلة من الطعام .

خبرنا من حزبنا بضرورة عدم البقاء في البصرة لعودة الأمن الى نشاطه العدواني بعد إنقضاء أيام مؤتمر قمة بغداد ومغادرة الوفود العراق، فكانت سفرتنا الى بغداد التي كانت تعج بالرفاق الشيوعيين النازحين من محافظاتهم .

البحث عن سكن آمن

واجهتنا مشاكل متعددة في بغداد أهمها تأمين السكن الآمن ،إذ إن السكن في الفنادق لم يعد آمن ونصبح فيه صيد سهل لشرطة الأمن التي كانت تدقق بأسماء النزلاء ، اضافة الى إن الفندق مرهق ماديا وأغلبنا غير قادر على الدفع، صار الحل المؤقت لهذه المشكلة عن طريق الرفاق البغداديين، ولكنهم أنفسهم كانوا معرضين لخطر الاعتقال بأية لحظة، لبعضنا جرى حل هذه المشكلة عن طريق تأجير غرف في البيوت المخصصة للتأجير للعزّاب في محلات مثل الحيدرخانة، المشكلة الثانية التي واجهتنا هي الحصول على عمل، لتثبيت مركز الرفيق الذي اجر الغرفة في هذه البيوت، اولا وللقضاء على وقت الفراغ الطويل ثانيا.

كان معنا رفيق مهندس، استطاع بعلاقاته الحصول على مقاولة للعمل، في معامل الشالجية للسكك الحديدية، وكانت هناك فترة من الوقت عدة أيام لحين مباشرة العمل شغلناها الرفيق الراحل إدريس ابو سلام عضو المنطقة الجنوبية آنذاك وانا، للتردد على المكتبة الوطنية المركزية في بغداد ولم تكن الفترة تلك خالية من المشاكل.

العمل في الشالجية

رغم المخاطر المحيطة بِنَا الا إن العمل هنا كان ممتعا نوعا ما، فنحن وسط العمال، وأيضا نعمل بأيدينا، لم يكن نوع العمل سهلا ، حيث كان العمل المناط بِنَا هو تهيئة المواد لبناء مسقفات ضخمة، وكانت المواد التي نهيئها هي عبارة عن ألواح حديدية شيلمان ضخمة متراكم عليها الصدأ، من سنين طويلة ،فأصبح جزءا لاصقا في الحديد، تتطلب إزالته قوة بدنية هائلة، ومعدات آلية مثل الكوسرة والفرشاة الحديدية ، كان هذا الجزء الأول للعمل اما ما تبقى هو صبغ الشيلمان بعد صقله جيدا بالصبغ مانع الرطوبة ، وبعد أن يجف، يصبغ بصبغ عادي .

كانت المعامل محاطة بسياج عال، له بوابة حديدية كبيرة منها ندخل الى المعامل ومنها نخرج، وطبعا يحرسها ثلة من الشرطة، أثناء انصرافنا من العمل الساعة الرابعة مساءاً نمر من امام الشرطة، وفي أحد الأيام أثناء انصرافنا من العمل شاهدت شرطيا من غير المكلفين بالحراسة واقفا عند البوابة، وما أن لمحني حتى أشر عليّ وقال "إجه صاحبكم" فتجمد الدم في عروقي، فتوجهت للخروج، فقال الشرطي لرجل يلبس جِلْبابا مصرياً هذا صاحبكم اسأله، فقال لي المصري ما شفتش حسنين اليوم؟ فقلت لا ماشفتوش .