الاعتقال والإضراب عن الطعام

حينما أقبل عام 1978م، أعلن حزب البعث العربي الاشتراكي، الذي كان حاكما في العراق آنذاك، شعار 10 سنوات والعراق يتقدم، ورافق ذلك شعار محو ألأمية، رافقهما حملة مسعورة ضد الحزب الشيوعي العراقي وتنظيماته، بحجة اكتشاف تنظيمات حزبية شيوعية في القوات المسلحة، التي يحرم فيها التنظيم الحزبي لغير حزب البعث وعند ذاك جرت حملة إعدامات لمجموعة من العسكريين الشيوعيين المجمد نشاطهم الفعلي في القوات المسلحة، وطالت حملة الاعتقالات الشيوعيين من غير العسكريين من الطلاب والمعلمين وأساتذة الجامعات ومن الأطباء والمحامين والمثقفين من كتاب وشعراء ومسرحيين وموسيقيين وعمال وفلاحين نساء ورجالا.

اعتقالي

كنت عائد من العشار (مركز مدينة البصرة) الى بيت أختي في محلة الجمهورية، وكنت أستقل باص مصلحة نقل الركاب، وعند نزولي منه توقفت سيارة كانت تسير خلف الباص نزل منها مجموعة رجال على وجه السرعة يتبعهم آخرون على دراجتين ناريتين وارادوا تكتيفي ودفعي الى السيارة فقاومت حركتهم هذه وتصايحت معهم معرفا بنفسي ومهنتي وكان عليهم استدعائي عن طريق وظيفتي، لم يزدهم كلامي الا إصرارا وسحب مسدساتهم علي، وتم اعتقالي ونقلي الى بناية في داخل سياج شركة نفط البصرة، وثم نقلت الى مديرية أمن البصرة.

التحقيق معي

هناك وجدتهم مستعدين للتحقيق معي وكان في بداية الأمر عبارة عن نقاشات تتخللها عبارات المديح لحزب البعث وعبارات الذم للأحزاب الأخرى وبعض الاتهامات للحزب الشيوعي العراقي بعدم الالتزام بقواعد العمل للجبهة وخرقها من خلال عمل الحزب الشيوعي في القوات المسلحة، ولما وجدني رئيسهم أحمد الخفاجي أفند دعاتهم، وأوضح حرص الحزب الشيوعي العراقي على ديمومة الجبهة، وعلى دعم الخطوات الجيدة وتعزيزها. انتقلوا الى الأسلوب العنفي في التحقيق، والذي أسفر عن وجهه القبيح في عصر نفس اليوم ، أنزلوني درج يمتد الى الطابق التحت أرضي للبناية (سرداب البناية )، فوجدت هناك باحة تحيط بها اربع غرف استخدمت كزنازين مكتظة ، فأدخلوني الى الزنزانة رقم  4 وجدت فيها أناس من جنسيات مختلفة فكان معهم رفاقنا ومن ضمن رفاقنا كان الرفيق عبد الباقي شنان ( ابو وفاء)  الذي يعمل في مقر حزبنا في البصرة هو وزوجته سألني الرفيق ابو وفاء عن إذا ما كانوا قد حققوا معي أجبته أنا قادم من التحقيق فرح كثيرا لأن التجربة علمته إن الذي يرسل للزنازين او يربط خارجها لا غبار عليه، بعد الظهر جاء أحد ضباط الأمن ومعه مجموعة من الحرس فأخذ يختار عدد من رفاقنا من كل زنزانة ، فمصطحبوهم الى اعلى السلم وعلقوهم من معاصمهم وأشتغل الضرب بالصوندات والكاويات والهراوات الكهربائية التي تمرر بالجسم شحنة كهربائية عند ملامسته، وعند انتهاء حفلة التعذيب كما يروق لهم تسميتها تركوا المعذبين معلقين من يد واحدة على ذلك السلم وبعد فترة أنزلوهم على إثر هذه الحملة الهمجية أعلنا الإضراب عن الطعام.الذي استمر بالنسبة لي 58 يوما وبالنسبة لأبي وفاء 51يوم وللرفيق محمد وهو رفيق شاب هادئ وديع من أهل التنومة استمر إضرابه  50 يوما أو يزيد ، وعندما اعلنا إضرابنا عن الطعام جن جنون الأمن وضباطه واستخدموا الترهيب والتهديد بتركنا نتعفن في حالة استمرارنا ثم استخدموا التشكيك بعملنا، والاستهزاء به ،من تقاليد المعتقل إنه ، يسمح للمعتقلين مرة واحدة في اليوم في الخروج من الزنازين أثناء الصباح للذهاب الى المرحاض وحنفية الماء للاغتسال وملئ الماء للشرب ، في هذه الفترة يشاهد الموقوفين بعضهم البعض، ويتبادلون النظرات ، إذ كنا تحت المراقبة الشديدة ، ويمنع علينا تبادل الكلام والسلام على بعضنا تسنى لي في هذا الوقت رؤية رفاق أعرفهم فرأيت الرفيق علي عزيز وهو رفيق من السماوة، كان طالبا في جامعة البصرة قسم الكيمياء وكان رئيس الإتحاد العام لطلبة العراق ، ولما تخرج تم تعيينه في شركة النفط الوطنية كمهندس كيمياوي وأثناء عمله توصل الى اختراع طريقة جديدة لمادة طين الحفر من مواد أولية محلية تكاليفها رخيصة ولما قدم اكتشافه للشركة الوطنية تم اعتقاله وتعذيبه بتهمة تسريب الاختراع الى الإتحاد السوفيتي ، والتقيت بعبد النبي كريم وهو كادر شيوعي في عمالية البصرة ، والتقيت بالرفيق ناصر محمود الثعالبي ( ابو هدى)  الذي كان هو الآخر مضربا عن الطعام ، والتقيت برفاق آخرين.

وكان معنا في الزنزانة فريق كرة قدم من شباب معظمهم من حزب الدعوة، ومعهم آخرين مثل العزيز ابو مروة عامر وهو محسوب على الدعوة آنذاك التقيته لاحقا في الدنمارك وأخبرني عن إعدام كل فريق كرة القدم ومن ضمنهم أخو عامر.

ولما وجد الأمن إن سياستهم في التهديد والوعيد لم تجد نفعا التجأوا الى أسلوب وجدناه اسلوبا رخيصا، وهذا الأسلوب يتمثل بتحسين نوع الأكل، فقدم في وجبة الغداء الكباب المشوي مع الطرشي ذو الرائحة النفاذة والزلاطات والخضروات، عسى أن تدني أنفسنا ونكسر الإضراب.

ولما طالت فترة الإضراب عن الطعام ووصلت الى أكثر من خمسين يوما أغمي علي ونقلوني الى المستشفى، وأفقت من الإغماء في سيارة الأمن التي نقلتني الى المستشفى وهناك رفضت أن أخذ المغذي أو أي دواء فرفض مدير الردهة إدخالي إياها الا في حالة قبولي أخذ المغذي فرفضت أخذ المغذي، وتم إرجاعي الى مديرية الأمن وتم إيقاف السيارة وكانت لاند روفر مغلقة وانا نائم فيها وكان الوقت هو وقت تبديل وجبة بمكان وجبة ، وكان كل من الخارجين من مديرية الأمن ومن الداخلين اليها يمر على السيارة وقسم منهم كان يبصق علي وقسم يسب ويشتم وآخر يستهزأ، ويقول إشراح إتحصل، بعدها تحركت السيارة بإتجاه المستشفى مع تعليماتها بضرورة فبولي بالمستشفى. كان الشرطي المرافق لي يختلف قليلا عن الشرطة الآخرين فسمح لي بمقابلة أخي أحمد الذي كان يعمل في مختبر المستشفى لما رآني استغرب ، ونقل خبر وجودي في المستشفى الى البيت وعلمت أمي بذلك، وكل ذلك وأنا رافض العلاج والمغذي( السلاين) ، ولما جاء الناس للمواجهة وقفت على السرير وفضحت عملية اعتقال الشيوعيين وتعذيبهم وعن إضرابي عن الطعام، وكانت الرفيقة العزيزة أم باسل قد قدمت لزيارتي والقت خطابا رائعا عن الاعتقالات وعن المعتقلين واوضحت للناس من أنا ووظيفتي، وكانت امي موجودة فاستغل الأمن والبعثيون وجودها كي يضغطون علي من خلالها ، فقالوا إنه الأضراب عن الطعام ونحن نطلق سراحك هنا قالت أمي كلمتها التي أفحمتهم بها فقالت ( هو ليش أضرب وليش هسه يفك الإضراب،  انتم طلعوه من الحبس وآنا أعرف شأطبخ له ، ثم التفت الي وقالت إبني أبق مضرب عن الطعام هو العمر واحد).

كان في الردهة معي رجل أعمى كنت أساعده بالرغم من إنني مقيد الى السرير، وأخبر ولده بتعاملي الحسن مع الرجل فشكرني ابنه وقال لي سمعنا بأن هناك برقية عن إطلاق سراحكم أستمر على موقفك، فعرفني بنفسه بأنه ضابط أمن.