(الدليل صبري)

الدليل أو المهرب (صبري) هو شخصية عراقية ـ سورية، من سكنة القرى الكردية الواقعة على تخوم العراق وسوريا ومن توابع مدينة (زاخو)، أنخرط في مطلع شبابه في منتصف ستينيات القرن الماضي في النضال المسلح للحركة الكردية. لم يطق معاناة انتكاسة الحركة في أحد أطوارها؛ تركها ولجأ إلى سوريا؛ إلى القرى المتاخمة للعراق لوجود أقرباء له في تلك القرى حاله حال الكثير من مواطني تلك القرى الذين تربط بعضهم البعض أواصر عائلية أو عشائرية وتتوزع بين البلدين في تلك القرى...الخ فسكن قرية (زهيرية) على الضفة السورية لنهر دجلة والقريبة من المثلث الحدودي (العراقي ـ السوري ـ التركي). بدأ في (موطنه) الجديد بتكوين أسرة له. إلا أن (موطنه) الجديد الذي وفر له الأمان والاطمئنان؛ لم يوفر له سبل العيش والحياة الكريمة، لاسيما هو فلاح وسيلته الوحيدة وموضع عمله الوحيد وحياته هي الأرض لا غير، كان توفير لقمة العيش لعائلته يقض مضجعه على حد قوله، فبدأ بممارسة مهنة التهريب لأمور بسيطة بين سوريا وتركيا بين فترة وأخرى لبضع سنوات إلى جانب الزراعة في قطعة أرضاً صغيرة والتي حسب قوله بالكاد كانت تسد رمق العائلة. بعد استيلاء حزب البعث جناح البكرـ صدام على السلطة 1968 في العراق وتصارع النظامين العراقي ـ السوري ومرور علاقاتهما بين الشد والجذب، وهروب اعداد كبيرة من العراقيين إلى سوريا، تأسس في دمشق مكتب لرعاية شؤون العراقيين لتسهيل وتيسير معاملاتهم ووثائقهم بعد أن أصبحت تلك الأمور من المعضلات التي واجهت العراقيين المتواجدين في سورية...الخ، أطلق عليه أسم (مكتب شؤون العراق) يقوم تقريباً بمهام السفارة العراقية التي أغلقت بعد قطع العلاقات بين البلدين. وانيطت مسؤولية إدارته بالجناح السوري لحزب البعث العربي الاشتراكي. تأسس للمكتب فرع كبير له في مدينة القامشلي ووضعت إمكانيات كبيرة تحت تصرفه (بناء ضخم، سيارات، ميزانية جيدة ...الخ) وأنيطت مسؤولية الفرع بالسيد أحمد ذي النون (أبو مدين) عضو قيادة قطر العراق لحزب البعث آنذاك. نشط الفرع في وسط الإيزيديين العراقيين الهاربين من عسف النظام والذين سكنوا قرية (الهول) التي يسكن فيها أبناء جلدتهم. كانت الحكومة السورية تساعدهم من خلال المكتب المذكور، في توفير بعض المؤن الغذائية والمساعدات الإنسانية الأخرى. جند المكتب بعض من هؤلاء في صفوفه كمقاتلين وشغيلة وحراس للمكتب ...الخ. وللحقيقة لم يخرج نشاط الفرع خارج حدود القامشلي؛ باستثناء بعض النشاطات والمراسلات من خلال مدينة (سنجار) والسبب واضح وجلي، هو عدم وجود (مقاتلين ومقرات) لحزب البعث (الجناح السوري) في كوردستان بشكلٍ عام و (بهدينان) بشكلٍ خاص، لذا كانت تحركاتهم محدودة في إطار محافظة الحسكة وخاصة قضاء القامشلي. وكان المكتب يحاول خلق تنظيمات له ولحزب البعث في وسط الإيزيديين في مدينة سنجار وقراها؛ لكننا لم نلاحظ أي ثمار لتلك المحاولات.

تطوع بعض من الكورد الذين لجأوا في فترات سابقة إلى القرى السورية المتاخمة للعراق والقريبة من مدينة ديريك (المالكية) للعمل مع (مكتب شؤون العراق) كمقاتلين وشغيلة في المكتب المذكور؛ فكان (صبري) أحد هؤلاء، طلباً للعيش ليس إلا، وعمل معهم بضع سنوات وعاش عيشة لا بأس بها بفضل المكتب.

 يقول الرفيق سعيد: (للأسف لا أتذكر التاريخ بالضبط لكني أعتقد كان صيف عام 1985) وصلتنا معلومات من مصادرنا في مدينة ديريك بأن (صبري) ترك العمل مع (مكتب شؤون العراق) أو طرد منه! منذ عدة أشهر وقُطِعَ عنه راتبه الشهري ويعاني الآن شظف العيش ووضعه مزرٍ جداً. ويضيف: ونحن بحكم عملنا ومهماتنا لفترات في هذا المجال كنا ندخر المعلومات التي نحصل عليها عن أغلب الأدلاء والمهربين في المنطقة، خصائصهم، إمكانياتهم والظروف العامة لأغلبهم ...الخ. وكان (صبري) أحد هؤلاء ومعروف لدينا بإمكانياته ومعرفته لمناطق المثلث الحدودي، تضاريسها، وضعها الأمني، كهوف الاختباء والمسالك ...الخ، كلها كانت مكشوفة له. لم نكن نتوقع يوماً ما أن يتخلى (مكتب شؤون العراق) عنه أو يفرط به بهذه السهولة. 

 يقول الرفيق سعيد: بعد أن عرف الرفاق المسؤولين عن محطة القامشلي الوضع الجديد للمدعو(صبري) بحثوا ضرورة التحرك نحوه، واحتضانه، لاسيما كانت المحطة تعاني صعوبات جدية في تلك الفترة لإمداد مقرات الحزب في كوردستان بمتطلبات الكفاح المسلح عن هذا الطريق أو المنفذ. وتدارسوا تداعيات التحرك نحو (صبري) بغرض استمالته واحتضانه للعمل مع المحطة على علاقة المحطة مع (مكتب شؤون العراق) التي كانت جيدة وكان السيد أبو مدين مدير المكتب يكن لمسؤولي المحطة الاحترام وكان متعاوناً في بعض الأمور الإدارية كالوثائق وهويات المكتب ...الخ، وظلت تلك العلاقات جيدة دون أن تعكرها أية شائبة، وكانت المحطة هي الأخرى حريصة على ديمومتها.

يضيف الرفيق سعيد الذي تولى مسؤولية المحطة بعد سفر الرفيق جلال الدباغ بمهمة خارج سورية: كان لبعض أطراف المعارضة العراقية تواجد في القامشلي؛ لبعض منها تواجد شكلي؛ بعضها على شكل مقرات والأخرى على شكل افراد. العلاقات كانت تتفاوت بين المد والجزر فيما بينها؛ محطة القامشلي للحزب الشيوعي العراقي كانت على الدوام حريصة على بقاء العلاقات جيدة مع الكل؛ بالرغم من عدم ارتياح بعض الفصائل من ما كان يحققها الحزب الشيوعي من النجاحات على الحدود، لذا حاولت المحطة أحكام السيطرة على سرية عملها والتستر على أدلائها وتخفي مهربيها ومنافد عبورها، وأحياناً وبقدر الإمكان تمويه وتضليل بعض الفعاليات المهمة وإخفائها حتى عن المخابرات، كانت خشية المحطة هي من محاولات (المخابرات العراقية) بدس عناصرها في صفوف المعارضة العراقية، أو الشوائب الأمنية قد تكون عالقة بأذيال بعص من تلك الفصائل.

   يستمر الرفيق سعيد في سرده فيقول: تدارسنا موضوع (صبري) من كل جوانبه مرات ومرات في غضون فترة وجيزة.  كلفنا عناصر موثوقة لتقصي وضعه، بتنا في النهاية على قناعة بأن (صبري) صيد ثمين جداً ويستحق خوض غمار تداعيات احتضانه مع (مكتب شؤون العراق) فخولني الرفيق جلال الدباغ التصرف لأنه كان على عتبة السفر إلى كوردستان بمهمة.  أنا اعرف (صبري) معرفة جيدة ولي لقاءات سابقة معه في مناسبات عديدة، لكن دون أن يجري بيننا أي حديث عن العمل، كنتُ حذراً التعاطي معه في موضوع العمل لأنه كان ضمن (مكتب شؤون العراق)، وكان لدي انطباع جيد عنه؛ فهو جريء، وشجاع، ومفعم بالنشاط، والحيوية. بعد سفر الرفيق جلال، أ خذت قضية (صبري) حيزاً كبيراً من اهتمامي، بدأتُ أتحين فرصة للقائه بعيداً عن أنظار وأعين المتطفلين. احياناً تأتيك حاجة تتمناها وهي موضع رجاءك، تأتي مسرعاً اليك دون عناء منك وما عليك سوى الإسراع في اقتناصها. ولم أكن أتوقع أن يأتي الأمر بهذه السلاسة! في أحد الأيام كنتُ في مدينة ديريك (المالكية) ولم يخل بالي من مسألة (صبري)، وبالصدفة التقيتُ بالرفيق الشيوعي السوري عبد الأحد (أبو سليم)ٌ وهو من الرفاق المعروفين في المدينة وكنتُ كثير التردد على بيته، قال: أنا كنت متوجهاً إلى بيت الرفيق سعيد دوكو (سكرتير منظمة الحزب الشيوعي السوري في المالكية) لأخبره بأن هناك شخص أسمه (صبري) يريد اللقاء بك أو بالرفيق (أبو محمود)  وهو لا يريد أن يعرف أحد بالموضوع، تنفست الصعداء، قلتُ في نفسي: يا محلى هذه الصدفة الجميلة، هذه هي عين الماء التي يبحث عنها الظمآن لإرواء ظمأه. في اليوم الثاني وإذا بي أجد نفسي وجهاً لوجه مع (صبري) في بيت (أبو سليم)، بقينا نحن الاثنين لوحدنا لأكثر من أربع ساعات في الغرفة، استمعت إلى كامل وضعه، معاناته وظروفه مع (مكتب شؤون العراق) وأسباب خروجه وتركه المكتب...الخ ( لا أجد من اللياقة  الكتابة عنها لأنها من الخصوصيات الداخلية لمنظمات أخرى أو بالأحرى لا يمكن تصديق كل ما قاله صبري ـ ع .أ ـ ) ويستمر الرفيق سعيد في سرده ويقول: بعد الاستماع لوضعه والأوقات التي يمر بها وعقده العزم للعمل معنا واستعداده بوضع كل إمكانياته تحت تصرف محطة القامشلي للحزب الشيوعي العراقي. وجدت المحطة نفسها أمام أمرين: من جهة تداعيات احتضان هذا الشخص (المطرود من مكتب شؤون العراق) ومقدار ما تلحقه من الأضرار في توتير العلاقة مع (مكتب المذكور) تلك العلاقة التي نحرص كل الحرص على إدامتها بالود والوفاق، ومن جهة أخرى، المغريات التي قدمها (صبري) عن منفذه والذي يعتبر من المنافذ التي بالكاد يمكن العثور عليه والواقع مباشرة على المثلث (العراقي ـ السوري ـ التركي) والقريب من جبل (بي خير) بحيث يمكن الوصول اليه ببضع الساعات والعودة منها في الليلة نفسها، وإمكانية الاختباء في كهوف الجبل نهاراً كاملاً، أنّ حاجتنا نحن كانت ماسة لمثل هذا الطريق. وجدتُ أن أقدامنا على استمالة (صبري) إلى جانبنا والعمل معنا جدير بتحمل تبعات ذلك على علاقتنا مع السيد (أبو مدين) فيما إذا أمتعض من احتضاننا لـ(صبري).

 من البداهة القول: إنَ الكفاح المسلح شكل من أشكال النضال تفرضه الحكومات المستبدة على القوى المعارضة لها، وكأي حرب لها جبهات القتال، وظروف جيوسياسية كلٍ منها تختلف عن الأخرى، فإذا كانت لدى القوى التي تخوضها رحمة تجاه من يقع في أيديها من أفراد يقاتلون في جانب النظام؛ فالنظام ليس له أية رحمة تجاه من يقع بأيديه من مقاتلي المعارضة سواء أكانوا أطفالاً، أم شباباً، أم شيوخاً، أم نساء، تتم إبادتهم وإبادة حتى الأبرياء. ولا تختلف عنده جبهة عن أخرى إذ تتساوى من حيث شراسته القرى والتجمعات البشرية والمزارع ...الخ. إلا أن وضع الجبهات تختلف الواحدة عن الأخرى، في ساحة المعارك المتقابلة، حيث يكون كل طرف مكشوف للأخر لذلك يعرف كل طرف كيف؟ ومتى يهاجم؟ أو كيف يصد الهجوم ...الخ؟، أما في الفعاليات الحدودية؛ فالمسالة تختلف وهنا تكمن الصعوبة، فالطرف المعارضة مكشوف وطرف جواسيس النظام للقيام بالأعمال التخريبية غير مكشوف، من هنا ينبع مصدر الخوف والقلق. قد يكون عدوك في المدينة أو القرية التي تعيش فيها، أو في الحي الذي تسكنه، وربما يكون جارك ويتودد اليك وهو يتحين الفرص للانقضاض عليك. عندما يأتيك شيء تتمناه وتلاقي الصعوبة في الحصول عليه وهو يأتيك بسهولة مسرعاً من طرفٍ لم تتوقع أن يرفع اليد عنه ويتركه لك عن طيب خاطر؛ تتضاعف عندك هواجس الخوف. الخوف ليس جبناً، والقلق ليس رعباً، كما أن التهور ليس شجاعة. الشجاعة الحقيقية هي التي تسير على أنامل الخوف وتتحول إلى الحذر آنذاك، خاصة إذا كانت الأمور تتعلق بأرواح الرفاق الذين أنت راعي حمايتهم.

يستمر سعيد في سرد ذكرياته ويقول: المدعو (صبري) اماط اللثام عن كل شيء الذي بجعبته، لم يدخر إلا شيئاً واحداً وهو (النوايا). هل هو صادق في كل ما قاله؟ هل مبررات تركه العمل مع (مكتب شؤون العراق) كان كافياً للتمرد على ولي نعمته؟ أم هو فخ ينصب لمحطة القامشلي في وسطٍ مليٍء بالألغام؟ عشرات من التساؤلات تدور في خلد الإنسان. أليس من الإجحاف والغباء أن تكون هذه الهواجس سبباً لنشيح ونبتعد عنه والتفريط بهذا الصيد

 لنرى مَنْ أوقع بمنْ؟

 

عرض مقالات: