الفصل الثاني

الدكتاتورية وسياسة الارهاب الشامل

المبحث الأول

اضطهاد السلطة للحزب الشيوعي والقوى الديمقراطية

سعى النظام الدكتاتوري منذ استلامه للسلطة تموز 1968 الى تقويض معارضيه من الأحزاب الوطنية والديمقراطية والاسلامية وحتى القومية بشقيها العربي والكردي، وكان مسعاه الاساسي هو منافسه الاشد الحزب الشيوعي العراقي العريق في تاريخه ونضاله ضد الحكومات الملكية السابقة والدكتاتوريات من اجل الديمقراطية وحرية الانسان.

اغتال النظام اعضاءً قياديين وكوادر حزبية متميزة في نشاطها ومواقفها قبل قيام الجبهة ومنهم ستار خضير و علي البرزنجي ومحمد الخضري الذي اختطفته اجهزة البعث والقت بجثته على طريق بغداد – بلد والعديد من الكوادر الحزبية وغيرهم، إضافة الى إعتقال عضو المكتب السياسي ثابت حبيب العاني. تميزت الإعتقالات بأنها كانت مخططة و متكررة واستنكرتها قيادة الحزب في أكثر من مرة من خلال البيانات او اللقاءات كما ذكرنا انفاً.

ان النشاطات التي قام بها الحزب وفوزه في انتخابات نقابات العمال واتحاد الطلبة والجمعيات الفلاحية والنقابات المهنية الاخرى قد أزعج حزب البعث وقيادته الذين راحوا يمارسون الضغط على الحزب ويبررون بمختلف الصيغ الديماغوجية هذه التصرفات.

ورغم التأثير السلبي لإنشقاق القيادة المركزية عن الحزب الأم في ايلول 1967، وما تركته شعاراتها الشعبوية كإسقاط السلطة بالسلاح، من ترك جمهرة واسعة من الشيوعيين للحزب، فقد أعيد نشاط بعض التنظيمات التي تشتت أيضاً من خلال الاعتقال والقمع والارهاب. وشدّد من صعوبة الوضع موقف الحكومة بعد انقلاب تموز 1968 وضغطها على اعضاء الحزب واصدقائه ومؤازريه في إرهاب يومي ومستمر.

لقد حدد الحزب ظروف التحالفات المستقبلية من خلال الكونفرنس الثالث واقر وثيقة التقييم لسياسة الحزب (1956 الى 1967) واعتبر سياسة خط اب 1964 سياسة خاطئة واستسلامية وموقفا يمينيا، وادان الانشقاق الذي اثر على مجمل عمل الحزب ومستقبل العراق، واكد على تحريم التحالف مع حزب البعث.

وعلى ضوء الظروف المشار لها، عقد الحزب الشيوعي مؤتمره الثاني في اربيل في قاعدة الأنصار (بر سيرين) في ايلول 1970وبشكل سري وكان عدد مندوبيه حوالي 100 عضو وعضوة، وجرى الوقوف على السياسة السابقة وما حدده الكونفرنس الثالث للحزب، خاصة وان المؤتمر جاء بعد ان سيطر حزب البعث على السلطة (سنة ونصف تقريبا) واخذ يعزز موقعه وبأشكال مختلفة. وسمي مؤتمر هندرين وهو اسم احد المعارك البطولية الذي كان لانصار الحزب الشيوعي العراقي دور فيها عام 1966.

ويشير عضو اللجنة المركزية رحيم عجينة حول هذا المؤتمر فيقول (جرى التوقف عند العلاقة مع حزب البعث، وتشخيص تركيبته ودوره في 8 شباط عام 1963، وجرى اعتماد الصيغة التي حددها كونفرس الحزب الثالث في 1967 في تحريم التحالف معه (مع البعث) الى العمل على التحالف معه ومع القوى السياسية إذا توفرت مستلزمات التحالف. وهذا القرار هو من اهم القرارات وهو انعطاف في سياسة الحزب بعد الدماء التي طالت الحزب الشيوعي واعضائه ومناصريه في 8 شباط. والغريب أن يعقب هذا الإنفتاح تشديد البعث لحملة الارهاب التي لم تتوقف على الاطلاق، سوى انها كانت تخفت في فترات وتعود وتشتد مرة اخرى كلما ظهر للحزب نشاط او قام بفعالية تعزز نفوذه او يتحقق نجاح ما للحركة الشيوعية او اليسارية في هذا البلد او ذاك، ولاسيما في المنطقة العربية.

وكان انجاز المؤتمر انتصارا كبيرا في ظروف حياة الحزب الداخلية خاصة وهو اول مؤتمر بعد الأحداث الدموية في شباط الاسود. وانتخب المؤتمر قيادة جديدة ووضع المناهج والبرامج الفكرية والسياسية والتنظيمية امام الجماهير وهي بداية عمل الحزب بعد الضربة الموجعة له في انشقاق ايلول 1967 بقيادة عزيز الحاج عضو المكتب السياسي للحزب. وبديهي أن ينعش عقد المؤتمر بشكل سري وبدون علم الأجهزة الأمنية والمخابراتية، دور ونشاط منظمات الحزب السرية.

وامام هذا النشاط للمنظمات الحزبية ولأعضاء الحزب، كان البعث يشن حملات تصفية على قيادة وكوادر الحزب كالاختطاف او الاغتيال او التصفية والدهس بالسيارات وغير ذلك. ويضيف عضو اللجنة المركزية رحيم عجينه (كنت أتابع ارهاب السلطة ضد اعضاء الحزب، وصرت أزور القيادة القطرية لأكثر من مرة في اليوم الواحد لطرح مختلف قضايا الانتهاكات من اعتقال واختطاف واختفاء واغتصاب واغتيال. ففي هذه الفترة فقدنا وليد الخالدي وادور عبد النور وكاظم الجاسم وشاكر محمود وعزيز حميد وعبد الامير سعيد، الذي أختطف من داره الواقعة في منطقة جميلة في بغداد).

كما تمت تصفية عضو اللجنة المركزية شاكر محمود بحادث سيارة مدبرة، عندما كان واقفا امام باب مستشفى اليرموك في الكرخ، وإختطاف وتصفية الكادر المعروف محمد الخضري . وهاجمت الأجهزة الأمنية والبعثيين تجمعا للشيوعيين للاحتفال في 11 اذار 1970 وهو يوم الاعتراف بحق الشعب الكردي في الحكم الذاتي وكذلك في الاحتفالات بعيد نوروز 1970.

وعندما زادت الحملة الارهابية عام 1978 تم اعتقال رفاق قياديين منهم اعضاء اللجنة المركزية او من المرشحين لها، كاظم حبيب وفخري كريم وعادل حبه وماجد عبد الرضا وأخرين في جميع المحافظات. وإعتقل سليمان يوسف عضو اللجنة المركزية، وهو من العسكريين، ومجموعة من الضباط المتقاعدين منهم سعيد مطر وفخري الالوسي وكمال نعمان ثابت واحمد شفيق الجبوري، الذين تعرضوا الى الاهانة والتنكيل والتعذيب، فيما تصاعدت حملات التضامن مع الحزب ورفاقه من جميع القوى الوطنية في العالم ومن الأحزاب الشيوعية.

وتركز دور عضو اللجنة المركزية مكرم الطالباني على الإتصال بالبعث عن طريق منذر عريم وكيل وزارة الخارجية، والذي كانت له صلاحيات واسعة، لطلب إطلاق سراح المعتقلين والإتصال بالأمن من اجل ذلك.

لقد رسم النظام البعثي خطة تخريب الجبهة وتصفية الحزب الشيوعي والقوى الوطنية على ضوء مجموعة من الدراسات والأبحاث التي انجزتها معاهد خاصة، وسعى للتأثير على قيادة وقواعد الحزب الشيوعي، وتمت الدراسة على اعلى المستويات الأمنية والمخابراتية، وكذلك الاستفادة من خبرات الدول الاخرى في انهاء معارضيها والتأثير على تلك الأحزاب بشتى الوسائل. وقد زرع النظام عملاؤه في جميع المؤسسات الحكومية والغير حكومية وخارج العراق في السفارات وفي الدول العربية وغير العربية. كما زرع اجهزة التنصت في مقرات الأحزاب، وأخضع اعضاء الحزب وعمله التنظيمي للرقابة الصارمة.

 ففي كتاب (ملفات الحزب الشيوعي العراقي في اروقة أجهزة الأمن العامة) يرد النص التالي:

(لم تكن لديه ـ يقصد الحزب الشيوعي العراقي ـ في محافظات ديالى والانبار والقادسية وكربلاء وذي قار وميسان ودهوك، لجانا تنظيمية بمستوى محلية قبل الجبهة. أما الآن فأصبحت لديه لجان في جميع محافظات القطر. أما بالنسبة لقاعدته الحزبية فكان عدد الاعضاء والمرشحين يتراوح ما بين 7-8 الاف عضو ومرشح و10 الف صديق، وبعد الجبهة اصبح العدد 26 الف عضو ومرشح و 37 الف صديق حسب اخر احصائية اعدتها قيادة الحزب في عام 1976).

حاول حزب البعث منذ تأسيسه ان يرفع شعار العداء للشيوعية، ودلت جميع التسلكات والنهج البعثي والقومي على التحامل والعداء للشيوعيين، واغلب من كتب من البعثيين أنفسهم عن فترة الخمسينات او انقلاب 8 شباط وارهابهم، كان يحمل البغض ودعوات القتل والتحامل على الحزب الشيوعي والديمقراطيين وحتى على الأحزاب القومية الكردية. وفي كثير من الاحيان كانوا يعملون مع القوى والشخصيات الدينية لمنع انتشار الافكار اليسارية والشيوعية. ويشير تقيم تجربة حزبنا النضالية للسنوات 1968 الى 1979 الى انه (لم يكن حزب البعث في العراق حزبا متجانسا، فقد كان دائما تجمعا من شتى فئات البرجوازية الصغيرة على اختلاف ميولها واتجاهاتها، ويضم في صفوفه عناصر من البرجوازية الوسطى وبقايا الاقطاعيين وقد طغت على ايديولوجيته روح العداء للشيوعية، وكان بعد ثورة 14 تموز 1958 وفي انقلاب شباط الاسود رأس الحربة الموجهة ضد الحركة الديمقراطية في العراق وفي مقدمتها الحزب الشيوعي العراقي).

لقد وصل الصراع بين الحزبين الى درجة من التناحر منذ فترة الخمسينات حتى سقوط النظام الدكتاتوري عام 2003 . وشبه احد المهتمين بتاريخ العراق المعاصر ما جرى بين التيارين القومي والشيوعي بانها - اشبه لقبيلتين يفصل بينهما دم وثار بارد، ولم تنفع محاولات بعض اطراف جبهة الاتحاد الوطني في اعادة اللحمة بين احزابها بعد ثورة تموز 1958.

هل كانت الجبهة الوطنية التقدمية طريقاً لتصفية الحزب الشيوعي؟

بعد سلسلة المتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في العراق، عقدت اللجنة المركزية للحزب اجتماعا في نيسان 1973 لمناقشة الدخول في الجبهة. وكانت اللجنة المركزية منقسمة حول ذلك حيث صوت معه سبعة أعضاء وضده ثمانية اعضاء. وبعد الاستراحة تم اقناع عضو اللجنة المركزية احمد باني خلاني من قبل سكرتير الحزب عزيز محمد، في ضرورة ان يكون مع قرار قيام التحالف، وتم له ما أراد فقررت اللجنة المشاركة في التحالف.

وحال توقيع إتفاق الجبهة الوطنية التقدمية (1973 الى 1978) من قبل رئيس الجمهورية احمد حسن البكر وسكرتير الحزب الشيوعي العراقي عزيز محمد في 16 تموز 1973كما اشرنا، بدأ النظام واجهزته الأمنية التخطيط لانهاء الحزب بالطرق والوسائل المتاحة، ومنها مراقبة الشيوعيين وارسال عناصر للاندساس داخل صفوف الحزب.

يقول الكادر البعثي والاعلامي حسن العلوي (في اليوم التالي كانت تعليمات قد وزعت الى الجهاز الحزبي تطلب فيه القيادة القطرية تقديم مقترحات وافكار لتفتيت الحزب الشيوعي العراقي!! وكان اخطر تلك المقترحات والتي اخذت طريقها الى التنفيذ ان يجري تلغيم الحليف بزرع افراد مندسين من اجهزة الحزب الحاكم و الامنية في صفوفه ولو اقتضى ذلك تركهم اعمالهم والتحاقهم بأعمال اخرى في محافظات ثانية). ويضيف العلوي (فقد رشحت المنظمات الحزبية من تتوسم فيهم القدرة على الاعمال التجسسية ودست بهم في تنظيمات الحزب الشيوعي حيث ينقل الملغوم الى محافظة اخرى قريبة ويعود في نهاية الاسبوع الى مدينته الاولى ليقدم معلوماته عن منظمته الشيوعية).

ونشطت منظمات الحزب الشيوعي المختلفة في عمل شبه علني طيلة سنوات الجبهة، وتوسعت قاعدة الحزب وتنظيماته في جميع مرافق الحياة، بما فيه مؤسسات الدولة الصناعية والزراعية والتعليمية وغيرها. اضافة الى نشاط اتحاد الطلبة العام وفي رابطة المرأة والشبيبة والنقابات العمالية والجمعيات الفلاحية والنقابات الاخرى كالمعلمين والمحامين وغيرهم.

وشرع البعثيون، وبالتعاون مع قوى رجعية في المنطقة واوساط اخرى، لوضع مخطط للحد من تزايد النفوذ الشيوعي "وتحجيم خطره"، وتصفية باقي أطراف الحركة الوطنية: وعملوا في هذا الاتجاه وبطرق مختلفة وبتخطيط على اعلى المستويات في:

  • تصفية الحركة الكردية من خلال عقد الاتفاق مع شاه إيران على ضوء اتفاقية الجزائر في اذار 1975. حيث قام الشاه بإيقاف المساعدات الى الحركة الكردية واغلق حدود المساعدات الطبية والتسليحية واللوجستية، وانهارت الحركة الكردية برمتها، وغادر من غادر وسلم أكثر من مئة ألف من المقاتلين وركائز الثورة انفسهم للنظام.
  • تصفية المنظمات الجماهيرية للأحزاب الوطنية وخاصة الحزب الشيوعي، الذي إرتكب خطأً جسيما بتجميد منظماته الطلابية والشبابية والنسائية، برغم معارضة القاعدة الحزبية. وتشديد سيطرة البعث وانفراده بالإمكانيات الشرعية للعمل بين الجماهير، واحكام قبضته بالقوة على نقابات العمال ومنظمات الفلاحين والشباب والطلبة والنساء المجازة رسميا.
  • الإستيلاء على ممثليات العراق في المنظمات العالمية بعد إن سحب الحزب الشيوعي ممثليه منها كالاتحادات العالمية ومجلس السلم العالمي ومنظمة التضامن الافرواسيوي.
  • وحين توتر الوضع في مجلس السلم العراقي وأصبح العمل فيه لا يطاق بالنسبة لممثلي الحزب الشيوعي، وخيم على سكرتاريته الجو الارهابي المتصاعد، انحسر نشاط الشيوعيين فيه تدريجيا.

ورغم الموقف الجديد والأيجابية الذي إتخذه المؤتمر الثالث من التحالف مع البعث، والحديث عن طموح الشيوعيين العراقيين الى بناء الاشتراكية مستقبلا بالتعاون مع البعثيين، وهو طموح أثبتت الأحداث  سذاجته، فقد تصاعد القمع ضد الشيوعيين.

ولعل أبرز أركان الحملة:

  • زج المزيد من المندسين والعيون في صفوف الحزب وفي تنظيماته وخاصة في بغداد وفي أطراف المحافظات.
  • الاستمرار في حملة هادئة تزحف تدريجيا من المحافظات صوب العاصمة لأصدقاء الحزب واعضاء الحزب واشتدت في عامي 1977 و1978.
  • الاستمرار في حملة اعلامية ضد الحزب لاسيما ان البعث عمل على تقوية مركزه الاعلامي في الخارج.
  • الاتصال ببعض الشيوعيين المطرودين او الذين تركوا الحزب لأسباب مختلفة او بعض القياديين، وحثهم على تشكيل تنظيمات شيوعية موازية وتعمل لصالح النظام.

وفي اجتماع اللجنة المركزية في 10 اذار 1978، تمت مناقشة أوضاع البلاد والعلاقة بين الحزبين والإشارة الى السياسة التي يصر الحزب الحاكم على انتهاجها في معاداة الديمقراطية وما يمس الحزب منها، واستمرار الأوضاع الاستثنائية، والمماطلة والتسويف في تشريع الدستور وفي اقامة المؤسسات الديمقراطية، ومن بينها المجلس الوطني. كما نوقشت سياسة التبعيث القسري التي تسير عليها الدولة في مختلف الميادين وفي عموم البلاد واتباع سياسة التعريب القسري الذي تمارسه السلطة ضد الشعب الكردي والاقليات القومية، وتشويه الحكم الذاتي في كردستان. كما نوقشت سياسة النظام المعادية للدول العربية المتحررة لا سيما سوريا واليمن الديمقراطية.

وكانت صيغة البيان الذي صدر عن الإجتماع هادئة، تؤكد على ضرورة ارساء العلاقة بين الحزبين على اساس الاحترام المتبادل وبما يعود على البلاد بالخير، واكدت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي مرة اخرى حرصها على إستمرار التحالف.

وحال صدور البيان، بدأت حملة شعواء على الحزب، لم يسبق لها مثيل منذ عام 1968، وذلك في مسعى لاركاع الحزب الشيوعي وحمله على التخلي عن بيان اذار 1978 والعودة الى الجبهة التي لم يعد لها اي معنى. ومع تصاعد الحملة وجه الحزب منظماته باتخاذ الاجراءات الضرورية لتفادي أثارها وتجنب الاعتقال و الخسائر.

وبهذا الصدد، يؤكد سكرتير الحزب السابق حميد مجيد موسى على أن قيادة الحزب الشيوعي العراقي قد أدركت إنها وقعت بأخطاء جسيمة وفي تقصير واضح ابان مرحلة الجبهة في جوانب مهمة، وكان يتوجب التركيز على المطالبة بفصل السلطات وسن دستور دائم واجراء انتخابات حرة وغيرها من المطالب السياسية، فضلا عن التشديد على الديمقراطية الاجتماعية والاصلاحات الاقتصادية.

وتضمن رد البعث اعدام 31 شيوعيا وديمقراطيا من الجنود في القوات المسلحة رميا بالرصاص بحجة محاولتهم تشكيل تنظيم شيوعي وغير ذلك من التهم الزائفة. ولم تنفع الوساطات الخارجية في اطلاق سراحهم او تخفيف الحكم عنهم حيث ارسل ليونيد برجينف الرئيس السوفيتي رسالة يطلب فيها عدم تنفيذ حكم الاعدام، الا ان حزب البعث وسلطته رفضت ذلك واعتبرته تدخلا في شؤون العراق وسارعت لإعدام ستة عشر عسكريا، الأمر الذي دفع الى غضب السفير السوفيتي في بغداد وزار صدام حسين للحيلولة دون الشروع بتنفيذ احكام الاعدامات، وكرد على غضبه تم اعدام اكثر من عشرة اخرين رميا بالرصاص من مجموع العسكريين!

وهناك من يرى بأن التدخلات والضغوط الداخلية والخارجية ربما جعلت الحكومة تأخذ مواقف أكثر تشدداً. وبعد ذلك طلب السوفيت من رؤساء الكتلة الشرقية للتوسط لدى الحكومة العراقية لإصدار عفو للعسكريين ولكن تلك المناشدات ذهبت ادراج الرياح وسار خمسة من السجناء الباقين الى الاعدام، وكانت تلك الحوادث قد ادت الى توتر العلاقات بين بغداد وموسكو.

وازاء هذا التدهور قلص عدد العاملين في جريدة الحزب (طريق الشعب) وتم تصفية المقرات (العام ومقر بغداد) من الوثائق وخروج بعض المعروفين من القياديين الى الخارج أو العمل السري، وتم العمل، ولو بشكل مربك، على اللجوء للصلات التنظيمية الخيطية.

وتكشف مراجعة تلك الفترة عدم وجود خطة واضحة لدى الحزب الشيوعي العراقي للتعامل مع حالة التدهور، حيث كتب قياديون عديدون عن القرار بالإنتقال الى العمل السري وتشكيل تنظيمات خيطية ووضع مسألة سفر الاعضاء الى الخارج كحل اختياري ووفق امكانيات لكل فرد.

وهناك من يرى بأن جوهر الامر لا يكمن في التحالف مع البعث الحاكم، في جبهة يفترض ان تتابع تطبيق البرنامج التقدمي، الذي جرى الاتفاق عليه، بل بالطريقة التي ادير بها الصراع مع البعث الحاكم بعد ذلك، لاسيما وإن الجبهة لا تلغي الصراع بين القوى المؤتلفة فيها، حيث تم تغليب موضوع الحفاظ على الجبهة على ما عداه من مهام، واستصغرت اهمية الديمقراطية السياسية، وعاش الحزب في خدر تجاه نوايا البعث الحاكم، وفي التصور الغريب من وجود امكانية لتحول البعثيين الى ديمقراطيين ثوريين.

وتدهورت حالة الجماهير بصورة عامة وتنظيمات واعضاء الحزب الشيوعي العراقي نتيجة الملاحقات الواسعة التي طالت جميع مرافق وبيوتات اعضاء وموازري الحزب واصدقائه. وقد ولّد هذا التدهور والموقف المتردد، احباطا عند الكثير من اعضاء الحزب، حيث بعضهم ترك الحزب ووقع على قرار 200 سيئ الصيت. وطالب الحزب اعتذار السلطة عن تلك الاعدامات واعادة الاعتبار للشهداء رسميا، وفي كانون الثاني 1979 طلب صدام حسين مجددا اجراء الحوار، لكن الحزب رفض مجددا الحوار مالم تنفذ شروطه الانفة الذكر فرفضت السلطة مقترحات الحزب وشنت حملة هوجاء جديدة عليه. واغلقت جريدة طريق الشعب واعفي ممثلو الحزب في الحكومة ثم رفع الحزب شعار انهاء الدكتاتورية في تموز 1979.

وفي نفس الموضوع يشير القيادي في الحزب الشيوعي جاسم الحلوائي، الى أن مفاتحة الحزب بإعادة التحالف كانت مناورة بعثية تستهدف الحط من سمعة الحزب السياسية وتحويله الى حزب كارتوني او حزب ضئيل الحجم والقوة والنفوذ. اما فكرة الاستفادة من عرض البعض لتخفيف الضغط علينا فقد رفضت بأعتبارها غطاء لتمرير سياسة اعادة التحالف، وإذا لم تكن كذلك وكانت مجرد مناورة فأن عمرها قصير، والرابح فيها في المحصلة النهائية هي السلطة البعثية لانعدام توزان القوى. ويكتب الحلوائي بإنه طلب من الحزب أن يشترط للحوار اولا وقبل كل شيء الغاء التعهدات التي اجبر المواطنون على التوقيع عليها والغاء المادة 200 التي بموجبها يعدمون، اذا ما عاودوا نشاطهم السياسي السابق.

ويذكر القيادي جاسم الحلوائي بإن أحد المسؤولين الذي بقوا في الداخل لمتابعة تنظيمات الحزب (ولي الشرف بأني كنت اخر رفيق عضو اللجنة المركزية بقي في المقر العام بين 12 رفيقة ورفيق مركزيا كانوا يداومون يوميا في المقر. ولي الشرف ايضا بأني كنت اخر عضو لجنة مركزية غادر العراق من مجموع خمسة وعشرين عضوا اصيلا).

وهكذا انسحب او لجأ الكثير من كوادر الحزب واعضائه الى كردستان (شمال العراق)، وكلفت منظمة اقليم كردستان للحزب الشيوعي بالتنسيق مع القوى القومية الكردية. كما غادر الكثيرون الى خارج العراق، إلى لبنان وسوريا واليمن الديمقراطية وبلغاريا وبقية البلدان الاشتراكية. وبدأ الحزب عملية تأسيس قواعد له في جبال كردستان كقاعدة ناوزنك وتلتها قواعد الأنصار الاخرى وجميعها على الحدود العراقية الايرانية او العراقية التركية.

المصادر

  • رحيم عجينة الاختيار المتجدد
  • عبد الرزاق الصافي شهادة من زمن عاصف وجوانب من سيرة ذاتيه
  • سيف عدنان القيسي، الحزب الشيوعي العراقي في زمن البكر1968-1979
  • ملفات الحزب الشيوعي العراقي في اروقة الامن العامة
  • تقييم تجربة حزبنا النضاليه 1968-1979
  • حسن العلوي دولة المنظمة السرية الطبعة الثالثة
  • صلاح الخرسان الحركة الشيوعية في العراق
  • سيف عدنان ، لقاء مع الدكتور كاظم حبيب
  • عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي ج3
  • فيصل الفؤادي الحزب الشيوعي العراقي والكفاح المسلح
  • جاسم الحلوائي الحقيقة كما عشتها

 

عرض مقالات: