بعد انفصام عرى الجبهة التي جمعت الحزبين: البعث العربي الاشتراكي الذي كان متربعاً على سُدَّة الحكم في العراق ،والشيوعي العراقي الذي كان خارج الحكم، وبعد التفاف الأول على الثاني بهدف تقزيمه أو تصفيته بحملة إرهابية شرسة من الاغتيالات، والاعتقالات، التصفيات الجسدية والسياسية لقياداته وكوادره وأعضائه؛ إضطر الحزب الشيوعي العراقي بسبب تلك الحملة إلى المعارضة المسلحة للحفاظ على كيانه من جهة، والعمل لأسقاط النظام بالتعاون مع بقية القوى المعارضة الوطنية من جهةٍ أخرى.

(هنا سرد للأحداث لا علاقة له بصواب أو خطأ هذا النهج) فكان لابُدَ للحزب الشيوعي من العمل بجهدٍ عالٍ ومتواصل لشحذ كل الإمكانيات لديمومة ونجاح هذا النهج الجديد على المسارين :
 
الأول: توفير مستلزمات هذا النهج (القوة البشرية، السلاح، التموين، المراكز والقواعد ...الخ)
الثاني: إيجاد السبل لإيصال تلك المستلزمات إلى تلك القواعد سواء من داخل العراق أو من خارجه عن طريق تهريبها من دول الجوار العراقي .

والمساران متلازمان ببعضهما. في المسار الأول توفرتْ الإمكانيات يمكن القول: توفرت (بأرْيَحِيّةِ).

وفي المسار الثاني (وهو الذي يعنيني في هذه الأسطر) لم تكن أمام الحزب من الإمكانيات من دول الجوار العراقي سوى سوريا التي يحكمها جناح حزب البعث الذي كان في صراع مستديم مع جناح حزب البعث الحاكم في العراق. أما دولة إيران الجارة للعراق والتي كانت في حالة الحرب معه لم تسمح مطلقاً بمرور طلقة واحدة عن طريقها للحزب الشيوعي العراقي، وحتى الذين سافروا من رفاق الحزب الشيوعي العراقي عن طريق طهران من وإلى كوردستان العراق (حيث مقرات الحزب) كان يجري سفرهم تحت غطاء الأحزاب الكردستانية العراقية الحليفة للحزب والتي كانت تسمح لها إيران باستخدام أراضيها. فكان لابُدَّ من التركيز على الدولة الجارة سورية وخاصة القامشلي التي فيها (نواة قديمة) للحزب، لذا تَطلّبَ الأمر رفدها بالكادر لتوسيع وتحسين إدائها بالشكل الذي يتلاءم مع النهج الجديد للحزب وبمساعدة الرفاق في الحزب الشيوعي السوري في البدء، والاعتماد فيما بعد وبالدرجة الرئيسة على رفاقه، لكن حتى هذا المنفذ الحدودي (السوري ـ العراقي) كان مغلقاً من الجانب العراقي بالحشود العراقية من الجيش والجحوش، وكان ثمن اجتيازه غالياً ليس بالمال وإنما بالأرواح. لذا وجب على الحزب ورفاقه العمل لإيجاد بديل أخر ألا وهو شق طريق أخر عبر دولة ثالثة هي تركيا وبمساعدة الأحزاب الكردية الصديقة والمتعاطفة مع الحزب في تركيا لبناء محطات له في جبال تركيا وتوفير مستلزمات إدامة تلك المحطات. فتحمل رفاق الحزب مشاقَّ اضافية في قطع هذا الطريق نحو مقراته في العراق.

يقول الرفيق سعيد الذي كان مساعداً لمسؤول محطة القامشلي: من نافل القول أن حركة الكفاح المسلح ما كانت ستستمر بالطريقة التي أستمرت عليها أكثر من عشر سنوات لولا النجاحات الكبيرة لمحطات الحزب بدءاً من القامشلي مروراً بجبال كوردستان تركيا والعراق إلى مقراته، والنشاط الدؤوب للرفاق العاملين في تلك المحطات التي كانت بمثابة سلسلة مترابطة من المفاصل الرئيسة لإدامة النضال المسلح للحزب الشيوعي العراقي (مثل العاملين في القامشلي، ورفاق الطريق، والرفاق في المحطات جبال تركيا والعراق ورفاق الطريق بين تلك المحطات والأصدقاء من الأحزاب الكردية في تركيا، وادلائهم والقرى التي احتضنتهم والرفاق في الحزب الشيوعي السوري ...وآخرين) لولا تلك الإنجازات لما كانت قد تحققت كل تلك الإمكانيات لحركة الأنصار (الكفاح المسلح) التي سطرت تلك الصفحات المشرقة والزاخرة بالبطولة في مسيرتها خلال السنوات العشر.

كان لرفاق الحزب "الحديث هنا يجري عن سلسلة الطريق بين القامشلي ومقرات الأنصار" شيباً وشباباً ومن كل الفئات المهنية (الطلبة، خريجوا الجامعات، موظفون، مدرسون، مهندسون، عمال ... الخ) دور بطولي قل نظيره في منطقتنا. لقد تبدلت شخصياتهم بين ليلة وضحاها إلى مقاتلين يحملون السلاح يخوضون المعارك البطولية ويقتحمون حدود الدول المجاورة للعراق، وتحت أزيز رصاص حراسها بالحيوانات المحملة بالأسلحة، أو يحملون على ظهورهم الطرية حقائب ملآى بالسلاح. ويسلكون فجاج الجبال واخاديد الوديان والمسالك الوعرة لإيصالها إلى مقرات الحزب الشيوعي العراقي. وكم من دماء سفكت وأرواح فُقدتْ في ذلك المسار. لقد كانوا هم وأعضاء في الأحزاب الكردية الصديقة للحزب في تركيا والحزب الشيوعي السوري أبطال ميامين. يدافعون عن القيّم الإنسانية أملاً في بناء وطن حر وشعب سعيد. إنّ الإنسان لينحني امام قاماتهم حقاً.

يقول الرفيق سعيد: أنا الآن أجدُ نفسي في غِنىً عن ذكر النجاحات والإنجازات التي تحققت وهي كثيرة، وقد استدلتْ على نفسها. أني لا أود التطرق اليها، إنما أود هنا أن أعرج على المواقف المحرجة التي صادفت عملنا وهي كثيرة وقد كُتِبَ عن بعضها سابقاً. هو يحاول أن يستخرج من مخابئ ذاكرته غيضاً من فيض تلك المواقف، ويرجع بها إلى أوائل شهر أيلول عام 1982 حيث خططوا لمحاولة ارسال مجموعة من الدواب المحملة بالسلاح من القامشلي إلى محطة الرفيق (أبو حربي) الرابضة داخل أخاديد وكهوف جبل جودي في تركيا، ومن هناك سوقها بالمسالك الخاصة من تلك المحطة إلى ايدي رفاق الأنصار في كوردستان العراق وبحماية مفرزة الطريق وكان أبو هديل (عبد الكريم جبر) آمرها يومذاك وبمعية الدليل محمد حجي خليل ومجموعته.

وهو يضيف: اجتمعنا نحن الثلاثة أنا وآمر المفرزة أبو هديل والدليل محمد حجي خليل (قائد مجموعته) ودرسنا العملية من كل جوانبها وناقشناها بإمعان عدة مراتٍ ولحوالي الأسبوعين قبل الشروع بها، وتمخضت تلك المناقشات والمعلومات التي توفرت لدينا والمعلومات المرسلة لنا من مجموعة الدليل في الطرف التركي أيضاً بأن تكون مجموعة الدواب أحدى عشرة دابةً، واحد عشر عنصراً برفقة الدليل (ومن جماعته) يتولونَ شؤون الدواب في الطريق، إضافة إلى أدلاء آخرين معه، وبمعية وحماية رفاق مفرزة الطريق ويكون بصحبتهم عدد قليل من الرفاق الملتحقين الجدد. ومن البديهي ان تكون الدواب كما كانت الحال في المرات السابقة بغالاً، والبغل هو الوسيلة الأساسية في التنقل وخاصة للحمولات في المناطق الجبلية لما يمتاز به من قوة التحمل والصبر ومعرفة السير في المسالك الجبلية الوعرة، وكنا نسميه عن حق (أسطول الجبال)، ان طاقة هذا المنفذ الحدودي الذي يقع بين قرية (سرم ساغ) السورية وقرية (الشعبانية) التركية كان يتحمل هذا العدد حسب توقعات الدليل، ويضيف الرفيق سعيد: كانت لدينا في القريتين ركائز جيدة، سواء الجانب السوري (الأخوين م ـ ح) اللذين كانا بمثابة عيوننا المفتوحة على الحدود وفي كل الأوقات وهما يزودوننا بكل ما يستجد فيها من المتغيرات فوراً، أما ركيزتنا في الجانب التركي فكانت تمتاز بإمكانية إخفاء الرفاق والحمولات وغيرها من الأمور لا سيما ليلة العبور ونهار اليوم الثاني، وكانت هذه الإمكانية دون أدنى شك في غاية الأهمية بالنسبة لنا، لصعوبة الوصول في نفس الليلة من منطقة اجتياز الحدود إلى الجبل حيث محطة (أبو حربي) لطول مسافة الطريق أولاً ، ولعدم كفاية الساعات التي يعم فيها الظلام لقطعه ثانياً، هذا من جهة ، ومن جهة أخرى لصعوبة التضاريس الزراعية لتلك المسافة والسير فيها عند الليالي المظلمة، ناهيك عن مجموعة من الرفاق الملتحقين الجدد الذين لم يعتادوا قطع المسافات الطويلة. وهذا المنفذ يقع بين مخفرين لحرس الحدود التركي يجب اجتيازه بحذرٍ شديد ويحتاج الجرأة والدقة المضاعفتين إلى جانب السرعة خاصة عبوره مع الدواب، وكنا قد بنينا ثقتنا بنجاح العملية وسلامة العبور بنسبة 85% على قدرة وكفاءة الدليل المحنك محمد حجي خليل ومجموعته وشجاعة رفاق المفرزة، و15% للمباغتات التي قد تحصل، هكذا رسمت العملية. وكنا نحذر دائماً الأدلاء والرفاق بعدم التحرش بالقوات التركية إلا دفاعاً عن النفس لأن هدفنا الوصول إلى العراق.

كان يصعب الحصول على نوع البغال التي تفي بالغرض المطلوب في منطقة الجزيرة السورية؛ إذ المدينة التي تشتهر بهذا النوع من البغال هي مدينة حلب وخاصة مناطق جبال (عفرين) القريبة منها والتي تبعد عن القامشلي حوالي (500) كيلومتر، وهي معروفة بأنواعها الجيدة والمتميزة لإداء مثل تلك المهمات بدءاً من القامشلي ووصولاً عبر جبال تركيا والعراق الوعرة وانتهاءً بمقرات الحزب داخل الأراضي العراقية.

ويضيف الرفيق سعيد: فكان علينا تهيئة أحد عشر بغلاً من هذه المدينة على ان أحداها من نوع خاص وغالي الثمن يسمى الشموزي أنه شبيه بقائد القطيع، جرئ ومغامر وقوي يسير في المقدمة ويتبعه بقية البغال..

عندما اتفقوا مع الدليل على العملية وخطتها، ارسلوا الرفيق السوري خالد سليمان إلى حلب لشراء البغال الجبلية ومن هناك شحنها في السيارات إلى قرى (تل كوجر القريبة من قرة جوخ السورية وفيها رفاق للحزب الشيوعي السوري) وهي تقع في طرف الحدود السورية العراقية وبعيدة عن الحدود التركية، للتمويه من جهة ، والاحتراز من أعين جواسيس الحكومة التركية إن وجدت في القرى السورية من جهة أخرى، وعلى أن يتم توقيت شحن البغال قبل تنفيذ العملية من خلال التواصل معه. وقد وصلت الحيوانات من حلب في موعدها المحدد أي قبل بضعة الأيام من الشروع بالعملية.
يتبع.....

عرض مقالات: