ما أن استلمت إجازتي الدورية بعد الظهر من رئيس عرفاء وحدتنا في قاطع الشوش- بسيتين، حتى أسرعت لأخذ بعض الحاجيات السريعة، تاركاً البقية على حالها، مكدسة في صندوق العتاد الخشبي.

 قطعت مع سيارة إيفا عابرة صعدتها، طريق البسيتين الترابي، ثم بعد ذلك طريق الاهواز – المحمرة (خرمشهر) الدولي السريع داخل الأراضي الايرانية، حتى وصلت بعد أكثر من الثلاث ساعات والنصف إلى منطقة الشلامچة العراقية الحدودية مع إيران. وأكملت طريقي من خلال عجلة أخرى إلى قضاء التنومة - شط العرب، فعبرت الشط بمركب صغير (ماطور) لنقل العابرين إلى جانب كورنيش العشار.

 هناك، عند الكورنيش كان يقف حتى مطلع شتاء 1982 عدد من المصورين وهم يحملون كاميرات (البولورايد) الأمريكية الصنع، التي تعطيك صورة سريعة مقابل مبلغ زهيد؛ فأستهوتني فكرة أن ألتقط صورة لي، كي أتركها عند أهلي للذكرى.. فهي الحرب ومن يدري!

 وانا أسير حتى بيتنا منتشياً بتلك الصورة، وبالقرب من تمثال (ساحة أسد بابل) المعروفة في المدينة، شاهدتُ لافتةً معلقة على حائط بهو الإدارة المحلية القديم، مكتوب عليها (معرض للكتاب تقيمه الدار الوطنية للنشر والتوزيع والإعلان ويستمر لخمسة ايام.

 تساءلت مع نفسي في كيفية الدخول للمعرض هذا وأنا الجندي المحسوبة عليه أنفاسه وحركته، حتى وهو على جبهات الموت خلف السواتر؟

توقفت قليلا عند الساحة تلك وأنا أنظر للأعداد غير القليلة التي تزور بناية البهو تلك، فخطرت لي فكرة أن أسرع الى البيت وأبدل ملابسي العسكرية كي أعود للمعرض!

وفعلا، بعد أقل من ساعتين وجدت نفسي وانا أضع اليشماغ الاحمر حول رأسي ووجهي، في مدخل المعرض.

 كان المعرض المقام هناك، يضم كتباً علمية وأخرى روائية لكتاب عراقيين وعرب وأجانب ومن دور نشر عربية وأجنبية منها دار التقدم السوفيتية   وغيرها من دور النشر، كما كانت هنالك كتب عن الفكر الماركسي وأخرى إلى لينين!

اقتنيت روايتين وكتاب علمي عن الفضاء وبعض الكتب الفكرية وخرجتُ مسرعاً صوب البيت.

كل الكتب هذه التي إقتنيتها من معرض الكتاب هذا، كانت مثلها قد أحرقتها الوالدة عام 1977 - 1978 بعد الهجمة على اليسار وما حصل حينها قبل اندلاع الحرب عام 1980!

 عدتُ في اليوم الثالث للمعرض ذاته، كي أقتني عدداً آخر من الكتب، فوجدت المعرض وقد ألغي وقد أقفلَ بهو الإدارة المحلية أبوابه!

 ما الذي حصل؟

سألت صديقاً صادفتهُ لاحقاً حينذاك في شارع الوطن المعروف، عن سبب ما حدث، فأخبرني عن مقرّبٍ له يعمل هناك، أن المعرض قد اقفلتهُ السلطات الأمنية في البصرة بعد أن شاهدوا إقبالاً كبيراً على شراء الكتب الثقافية والفكرية الماركسية اللينينية، ونفاذ كل ما يُطرح منها يومياً في المعرض!

 أين كل تلك الكتب الآن التي إقتنيتها؟

كل تلك الكتب، كان قد دفنها والدي بعد إنتهاء إجازتي وعودتي لوحدتي العسكرية في زاوية من حديقة البيت دون علمي، لأنهم كانوا يخشون على حياتي، وحتى عودتي إليهم بعد شهر في إجازة أخرى عندما أخبروني عن حقيقة ذلك، ثم أحرقتها الوالدة ثانية قبل هروبهم إلى بغداد بسبب القصف المدفعي للمدينة الذي كان ينهال كالمطر..

كل شيء ينهال كالمطر ويتوقف لاحقا، الا الفكرة، فلا أحد يوقفها أو يغلق الأبواب بوجهها أو يحاول دفنها..

عرض مقالات: