كنت في ذلك اليوم في مقر منطقة بغداد للحزب ألشيوعي ألعراقي. كانت ألأجواء كئيبة وقلقة ومشحونة، ولم يعد ألكثير من ألرفاق يصلون ألمقر. كان فيه البعض من شغيلته، وعدد من ألرفاق ألهاربين من منظمات ألوسط والجنوب، بعد أن بدأت هناك حملة ملاحقة واعتقال أعضاء وأصدقاء ألحزب مبكرا (منذ أوائل ١٩٧٨).
في ناحية من ألمقر كان يرتفع عمود من الدخان المنبعث من المواد الورقية ألتي كنا نتعاقب على حرقها وكنت مكلفا بتصفية غرفة (مشطم) - ألمكتب ألمركزي للطلبة والشباب. فقد كان يسودنا شعور عام بأن حملة ألبعثيين على ألحزب ألشيوعي ستتواصل وتتسع، لتصبح حملة شاملة لتصفية منظماته.
وكانت ذريعة ألبعث آنذاك أن لدى ألحزب ألشيوعي تنظيمات في ألجيش، وأنه ربما ينوي ألأنقضاض على ألسلطة كما حصل في أفغانستان في نيسان ١٩٧٨. لكن المشروع العفلقي هذا يعود الى فترة مبكرة. فالبعث لم ينجح في عزل ألحزب ألشيوعي عن جماهيره، وقد بلغت عضويته ٣٥ ألف عضو والى جانبها ما يزيد على ٧٥ ألف من ألأصدقاء.
وسعى اصحاب المشروع في ألبداية ألى ألتهديد والضغط لحل ألمنظمات ألديمقراطية للطلبة والشبيبة والنساء. لكن ألحزب أستطاع أحتواء ذلك، واستمر ينمو رغم الضغط والتخويف. ثم ادعى ألبعث أن ميثاق ألعمل ألوطني أنجز وعلينا أن نبدأ بالاعداد لميثاق جديد، ألأمر ألذي كان ألحزب ألشيوعي يرفضه لان هدفه ألحقيقي هو أخضاعه.
لكن ألبعث لم يكف عن سعيه ألى تحجيم ألحزب عبر تصفية منظماته وكوادره بحجج مختلفة. وتصاعدت حملة ألتصفية في سنة ١٩٧٨، خصوصا بعد الثورة التقدمية في أفغانستان، حيث سعى ألبعثيون ألى ألأجهاز على العديد من رفاقنا ألعسكريين ، بحجة تشكيلهم خلايا في ألقوات ألمسلحة. ولكن تدخلات ألدول ألأشتراكية والاحزاب ألصديقة افلحت آنذاك في منع نظام صدام من أعدام ألرفاق ألعسكريين، وكان هناك أمل في أن يتوقف ألتدهور.

لكن يوم ١٧ آياركان يوما مختلفا

فقد أعدم ألنظام ألبعثي 16 من ألعسكريين ألشيوعيين فجأة ودفعة واحدة، وكان الضحايا من ضمن 31 عسكريا شيوعيا سبق وان حكم عليهم بالاعدام ظلما وعدوانا.
كنت في ذلك ألنهار وكما أسلفت في غرفة (مشطم) بمقر بغداد، ولم نكن نعرف ان ألنظام ألبعثي نفذ ألأعدام غدرا باولئك الرفاق الـ 16، لكن ألبعثيين أختاروا طريقة غير مسبوقة لأعلامنا باقترافهم الجريمة. حيث سيّروا ١٦ سيارة أسعاف عسكرية، تحمل كل منها جثمان احد الرفاق الشهداء، في قافلة تسير ببطء ثم تستدير وتعود في ذات ألطريق، ثم تتحرك سائرة بمحاذاة مقر أللجنة ألمركزية، وتعود بمحاذاة مقر منطقة بغداد. كانت رسالة تهديد وترويع واضحة.
عندها ذهبت لأخبر الرفيق ألمسؤول في مقر بغداد، وكان آنذاك ألراحل عبد ألأمير عباس (أبو شلال) المرشح لعضوية اللجنة ألمركزية.
بعد أسبوع أعاد ألبعثيون ألكرّة وقاموا باعدام الرفاق الـ 15 المتبقين، وليباشروا إثرها هجومهم الشامل الوحشي لتصفية منظمات ألحزب، والذي ذهب ضحيته عشرات ألآلاف من أعضاء الحزب وأصدقائه.