في جو صيفي من العام 1979، جلس في احدى المقاهي المطلة على شارع السعدون. وقتها كان قد راجع الخطوط الجوية العراقية من أجل الحصول على “تذكرة” تناسب موعد السفر الذي قدره.
فكر مليا بأمر الخروج من العراق. فهو ذاهب للمجهول، وباتت تتجاذبه أفكار متناقضة: الخوف من الفشل، آمال العودة البعيدة، فراق الاهل والاحبة والاصدقاء.. تساؤلات وأفكار عديدة حول إمكانية بقائه في بلده وعدم مغادرته.
اثناء وجوده في شارع السعدون، شاهد اصحاب الزيتوني (أزلام حزب البعث المباد) يتبخترون واسلحتهم جاهزة، واضحة تحت ملابسهم، ما دفعه إلى التفكير الجاد في الخروج من البلد، لكنه خشي من وجود اسمه في قائمة الممنوعين من السفر.
قلّب الامر في عقله، وتردد. فتذكر وهو في خضم هذه الشبكة المتداخلة من الافكار، صديقه وقريبه عبد الحسن سميسم*، الذي كان قد سافر إلى الكويت وعاد مجددا إلى العراق. فتساءل في قرارة نفسه: كيف له بعد تمكنه من السفر الى الكويت، أن يعود مجددا في ظرف عصيب مخيف، غادر بسببه العديد من الأصدقاء، مع اشتداد حملات البعث المركزة ضد الوطنيين لمتابعتهم واعتقالهم؟
ظل يلوم صديقه على هذا التقدير الخاطئ، الذي كان قد وقع به أيضا، شقيق صديقه د. محمد صالح سميسم**، والذي سافر إلى الهند وعاد مرة أخرى إلى العراق في تلك الظروف ذاتها.
ظل يفكر في صديقه عبد الحسن، وتذكره واقفا في منطقة الشيخ عمر، متخفيا في أحد محال الحدادة. وقتها نظر إليه من مسافة قريبة، ولاحظ أن هيأته لا تتطابق مع مهنة الحدادة. فقد كان يشاهد كيف يقوم صاحب المحل بإجراء اللحام الكهربائي. إذ انه لجأ إلى هذه المهنة، كي يكون في مأمن من السلطة.. يعيش على أجرها ويدفع إيجار الغرفة التي استأجرها مع أخيه فائز.
وقف شارد الذهن وهو يستعيد هذه الذكرى، ولم يغب عنه الخوف من رجال الأمن والمتعاونين معهم، وما هي إلا لحظات حتى ظهرت سيارة “تويوتا” بيضاء حكومية، وقفت وترجل منها شخص وتوجه إليه مباشرة.
شحب وجهه وهو ينظر إلى القادم، تعلقت عيناه به وتفرس فيه، ليأخذه الهلع من هذا المزيج مأخذا.. سيارة حكومية تشبه التي يستخدمها رجال المخابرات او الأمن.
بدأت اعضاؤه تتهيأ للهرب، فيما بدأت عيناه بالتعرف على الشخص القادم.. انه هو، هو نفسه الجالس وحيدا في المقهى المطلة على شارع السعدون! فقد كان يستعيد هذه الذكرى ويبتسم ويهز رأسه.
وما هي إلا ثوان معدودات، حتى خرج من هذه الصورة المجسمة القادمة من الماضي القريب.. ها هو عبد الحسن أمامه، يفاجئه كما كان قد فاجأه هو من قبل.. كان راكبا خلف سائق دراجة بخارية، مخترقا شارع السعدون، داخلا في النفق الطويل تحت ساحة التحرير. فخرج من المقهى كي يراه ويودعه بنظرات كلها حزن وأمل.. لكنه اختار في النهاية الدخول في نفق طويل آخر، ينتهي باستشهاده!
الذكر الطيب لهذه الشخصية النبيلة، لتلك الابتسامة البريئة التي لا تنسى.. تلك العائلة الطيبة.
*
الشهيد الشيوعي عبد الحسن سميسم، ألقي القبض عليه عام 1980 ونفذ به حكم الإعدام عام 1983.
**
الشهيد الشيوعي د. محمد صالح سميسم، وهو شقيق الشهيد عبد الحسن، وقد استشهد عام 1981.

عرض مقالات: