نصيرات الحزب والوطن
بعد الحملة الشرسة التي قامت بها السلطة الدكتاتورية واجهزتها الاخطبوطية القمعية عام 1978 - 1979 لتصفية الحزب الشيوعي العراقي اضطر المئات من خيرة بنات وابناء شعبنا العراقي بعربه وكورده وتركمانه ومسيحييهوصابئته من اعضاء الحزب اللجوء الى مناطق آمنة والانتقال الى العمل السري والأنصاري بعد استحالة بقائهم في المدن والنواحي والاقضية دون التعرض لخطر الإبادة والتصفية الجسدية.
واستطاع قسم من رفيقات ورفاق الحزب أن يهربوا إلى بقاع الدنيا حسب ما استطاعوا كخطوة أولى ومن ثم التحقوا بصفوف انصار حزبهم في جبال كوردستان الشماء وخاصة بعد ان لبوا نداء الحزب ثم طلبه في العودة إلى كوردستان والمشاركة في حرب الانصار بعد ان تقرر رسميا تبني الكفاح المسلح كأسلوب رئيسي في النضال من اجل الاطاحة بالنظام الدكتاتوري في عام 1981. رغم ان تاريخ تشكيل أول مفرزة شيوعية انصارية يعود الى عام 1979.
وضمن مقدمة هذه النخب والمجاميع الأنصارية، تقدّمت نصيرات شيوعيات طليعيات، اللاتي لبّين نداء الحزب بروحية جهادية عالية ونكران ذات كبير. وكرسن حياتهن من اجل سعادة وحرية شعبنا وخاصة بعد أن أكمل قسم منهن دراساتهن الجامعية حيث وصلن إلى كوردستان مع مجاميع وجبات من الانصار اصحاب شهادات وكفاءات عالية بعد تخرجهم في معاهد وكليات أرقى دول العالم، والبعض منهن رجعن إلى كوردستان ولم يكملن دراستهن واكتفين بدورات عسكرية في معسكرات منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان وفي دول عربية اخرى و غيرها.
خلال فترة الثمانينات وصلت مجاميع كبيرة من الفدائيين والفدائيّات إلى ارض الوطن بعد ان قطعن مسافات طويلة وعبر طرق واراض دول مليئة بالمخاطر، حيث كانت عملية عبور ايّ من الحدود تستغرق اسابيع وشهور سيرًا على الاقدام لان الحركة كانت في الليل فقط.
ومع وصول النصيرات إلى أرض الوطن ارتدن الزي الكوردي الرجالي (كورته ك وشه روال) وحملن السلاح جنبا إلى جنب رفاقهم الانصار. فظهرت ولأول مرة في تاريخ حركة الكفاح المسلح في كوردستان عشرات من الفدائيات الشيوعيات وهن مدججات بالسلاح يعملن بجد واخلاص وتفان في صفوف الحزب الشيوعي العراقي من أجل الاطاحة بالنظام الدكتاتوري واحلال البديل الديمقراطي، اضافة إلى اللواتي لعبن دورًا بارزًا في استنهاض الجماهير في كوردستان وفي انتفاضاتها اعوام 1982،1984، 1987 وانتفاضة اذار 1991.
أول ما قامت به النصيرات البطلات كان مساعدة أهالي تلك القرى القابعة في اوقيانوس الاحزان، في اعادة بناء ما خربته القنابل والصواريخ والكاتيوشات التي كانت تمطر عليهم أكثر من مطر وثلوج الشتاء.
نعم فالنصيرات او الفدائيات الشيوعيات ساعدن أهالي القرى في بناء ما دمرته الحروب وانفالات الحكومات العراقية المتعاقبة من البيوت والمدارس.
وبالإضافة إلى مهماتهن الكثيرة والمتعددة قمن على سبيل المثال لا الحصر، بإعطاء وتقديم الارشادات الصحية لأهالي القرى وفتح دورات لمحو الأمية، حيث ولأسباب معروفة لنا جميعا حرمت هذه المناطق والتي سميت بمناطق (المحظورة) من حق التعليم والصحة والخدمات الرئيسية والخ.
كانت النصيرات يترددن على القرى للاطمئنان على مرضى العوائل ويقدمن لهن المشورة والنصائح وطرق الوقاية من الامراض التي كانت منتشرة في المنطقة وكن يساعدن ايضا النساء الحوامل عند الولادة ويقفن بجوارهن ويقدمن لهن كل المساعدات الطبية، ومن خلال تلك العلاقة الودودة بين النصيرات واهالي القرى تعلمن اللغة الكوردية كطريقة للتفاهم المباشر وخاصة بين النصيرات اللاتي عملن في مجال الصحة (الطبيبات، الممرضات، الخريجات)، حيث وبفترة قياسية قصيرة ذاع صيتهن بين القرويات واصبحن محل التقدير والفخر والاعتزاز.
ومن هذا المنطلق عرفت كوردستان وشعبها اسماء لامعة ونجوم ساطعة في سماء النضال والتحدي والمقاومة.
كانت النصيرات ينتقلن من مقر لآخر ويقمن بالواجبات العسكرية رغم الظروف القتالية الصعبة وقساوة الطقس في كوردستان وكان لأغلبهن دور متميز في التنظيميات النسوية بالإضافة إلى القاء المحاضرات والندوات وايضا توزيع النشرات والجرائد والادبيات الحزبية اثناء نصب سيطرات الأنصار على الطرق والشوارع الرئيسية في عموم مناطق كوردستان والدخول إلى عمق الأراضي التي كانت تحت سيطرة ازلام النظام البائد بجانب رفاقهن الشجعان،فمن اولئك الفدائيات البطلات نستذكر هنا النصيرة الشيوعية البطلة (مهاباد حمه رشيد هورامي) المعروفة بالنصيرة (تانيا).
كتبت النصيرة الشيوعية (مهاباد رشيد هورامي) المعروفة بـ(تانيا) وصيتها بعد انسحابها مع رفيقاتها ورفاقها عبر جبل قنديل إلى المجهول أثناء تعرض مواقع الانصار التابعة للشيوعي العراقي في (قرناقاووپشتئاشان) إلى هجوم شرس ودموي من قبل مقاتلي الاتحاد الوطني الكوردستاني بقيادة نوشيروان مصطفى..
ومن الجدير بالذكر ان النصيرة الشيوعية (مهاباد) هي بنت الرفيق الشيوعي الخالد والمربي الفاضل (حمه رشيد هورامي)...
تقول النصيرة (مهاباد) في وصيتها المكتوبة بخط يدها: (جلست بصحبة الرفيقة (تريسكة) للاستراحة على حافه غدير الماء، أخرجت ورقة من جيبي لأدون وصيتي هذه:ـ
(طريقنا صعب وشاق ومليء بالمخاطر، لا أحد يعرف ماذا يمكن أن يحدث لنا اليوم.
رفيقاتي ورفاقي: اود ان اصارحكم واقول لكم: احبكم جميعًا دون استثناء.. ولم افرق يوما بين الكوردي والعربي والهورامي والتركماني والايزيديوالصابئيالمندائي، وكل الذين جمعهم الحزب من كل زوايا الوطن..
رفاقي في النضال، رفاق درب الشهداء (فهد وحازم وصارم وسلام عادل وصحبهم الكرام) كلكم احبة واعزاء على قلبي.. يجمعنا هدف واحد ومصير واحد وطريق واحد، نتقاسم الحلو والمر الجوع والعطش، والمر الجوع والانتصار والانكسار.. نتقاسم اللهفة، والخوف، والأمل.
اوصيكم يا رفاقي، حين اموت، واصلوا المسير ولا تتوقفوا، ضعوا جثتي على صخرة في اعالي الجبل وغنوا لي نشيد ميلاد الحزب (31 اذار) (1)، ثم واصلوا المسير، روحي فِداء التراب الذي تمشون عليه....
وإرضاء لروحي بعد موتي، لا اريد ان تدفنوني تحت التراب، اتركوا جثتي في العراء لتلتهمها النسور الجبلية وتُحَلِّق بي إلى الافق البعيد...
أتعرفون لماذا ؟
لانني اريد ان اُحلق مع النسور في سماء وطني واحوم حولكم واتابع مسيركم وانتصاراتكم وافراحكم.
وإذا صادف احدكم والدتي وسألتكم عن قبري، قولوا لها: انها تُحَلِّق مع النسور، ارفعي راسكِ إلى السماء وانظري اليها، فهي تُحلق فوق راسكِ.
قولوا لها: لا تبكي ولا تذرف الدموع ولا تحزن، ابنتكِ خالدة لا تموت..
رفيقاتي ورفاقي: في النهاية اكرر واقول: احبكم وأتمنى لكم التوفيق.. وأن تكونوا مرفوعي الرأس والجبين وان تستمروا في النضال حتى تحقيق الهدف المنشود (وطن حر وشعب سعيد)..
(بكيت بحرقة)......
تستطرد النصيرة مهاباد في وصيتها قائلة:
بينما انا غارق حد النخاع في خيالي، سألتني الرفيقة (تريسكة): ماذا تكتبين؟
ـ قلت لها: وصية مماتي...!!
قالت: ايتها المغفلة، عن اي موت وعن اي وصية تتحدثين؟ لم نمت اثناء انسحابنا عبر جبل قنديل فيما الرصاص يغطي طريق انسحابنا، نجونا من غدر كمائن قوات (اوك الاتحاد الوطني الكوردستاني) وصواريخ المدافع في (خانة وسيلوي)، تعرضنا لأقسى وأصعب الظروف ولم نمت، بعد اجتياز كل هذه المصاعب تخافين وتفكرين الآن بالموت؟
قلت لها: لا اخاف من الموت أبدًا، الا انني فكرت الآن بان اكتب وصيتي.
قالت: أذن هل لديك صورة لنصمم لكِ بوستر بعد موتكِ؟
ـ قلت لها: نعم، صورتي موجودة عند الرفيق النصير (حسن خدر) (2) التقطناها مع عائلتها في (پشتئاشان)، وإذا لم تحصلوا عليها، فللحزب تشكيليون يٌصممون لكم ما تريدون.
ـ قالت: دعني أقول لكِ شيئا، على الرغم من اننا أصبحنا صديقتين مقربتين بل أختين تعرفنا على بعضنا منذ مدة قصيرة، ولكن أفهمكِ جيداً وأفهم ما يدور بداخلكِ وكأنني أعرفكَ منذ زمن طويل، فمن اللحظة الاولى تقاسمنا الحلو والمر والفرح والحزن، تقاسمنا الضحك والبكاء، كنا نبكي ونحزن بحقّ على رفاقنا الذين فقدناهم على طول الطريق، وفي بعض المرات كنا نتخاصم ولكنها كانت مشادات نبيلة... أسألك.. ماذا أفعل حين تموتين؟
ـ قلت: لا شيء
ـ قالت: تموتين وتريدين ان لأبكي عليكِ؟
ـ قلت: اذن اغمري راسكِ بالطين البكاء وحده لا يكفي...!!
ـ قالت: يا للهراء...
ـ قلت: انا اخترت طريقي بمحض إرادتي الكاملة وكنت اعلم جيداً بانه طريق شاق، طويل ومليء بالتضحيات والمخاطر.
ـ قالت: رفيقتي (تانيا) كم انتِ شجاعة...ولكن ارجوكِ لا تتركيني وحدي بين ركام الهموم، أنتِ تعرفين جيداً مدى احتياجي إليك...لا تموتي...!
ـ ضَحكنَا بصوت عالٍ...
وبينما نحن جالستان، وصل إلى اسماعنا صوت أحدهم يصرخ من بعيد ويقول: هيا استعدّوا للحركة...!
وبعجالة كتبت:
امامنا طريق طويل وصعب.. ولا نعرف إلى أين يريدون أن يقودونا...؟)
التوقيع (تانيا م هـ)
1983
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 نشيد لميلاد الحزب الشيوعي العراقي باللغة الكوردية ، وهو نشيد ذائع الصيت (31 ئادارینەمرجەژنیکارگەران / 31 اذار الخالد عيد شغيلة اليد والفكر).
2 الصورة التي تتحدث عنها النصيرة (مهاباد تانيا) في وصيتها، هي الصورة المرفقة بالمقالة.