عانت الثقافة الكردية في جنوب كردستان ، وعلى الاخص ، بلاد الكرد الموزعة بين العراق وايران ، من اهمال لواقعها الثقافي  وادابها ولغتها ، فلم يكن التدوين والتاليف متاحا للمعنيين في الثقافة على جانبي خط الحدود الفاصل بين ايران والعراق من وسط البلاد ( خانقين / كرمانشاه ) الى جنوب البلاد ( جنوب العمارة / لورستان ).

في تلك البلاد الكردية المتدة  على جانبي حدود العراق وايران التي تقدر بالاف  الكليومترات  ، والتي تضم محافظات عيلام ولورستان وكوردستان في ايران ، ومدن خانقين وبدرة وجلولاء والسعدية  وبعض قرى وبلدات ديالى والكوت والعمارة في العراق ، وامتدادها الذي يتجاوز العاصمة بغداد وقد يصل الى الحلة وجنوب الفرات الذي تتوزع فيه قبائل كردية مثل الجوران والسورميري والملك شاهي وغيرها من  عشائر وتجمعات توزعت في الاراضي الزراعية منذ فجر التاريخ ، والتي عمرت ارض سومر وبابل بعمرانها وخبرتها الزراعية وتصنيعها لمنتجات الالبان وبراعتها في الحرف اليدوية وصناعة العربات ، و الفنون الموسيقية والغنائية والرياضة مثل المصارعة ولعبة الخيول – الصولجان / بولي  – وغير ذلك .

عانت الثقافة الكردية الجنوبية في العراق من النظرة الاحادية للثقافة ومحاولة فرض الثقافة العربية على جميع البلاد والشعوب القاطنة في العراق دون اعتبار لتاريخها وثقافتها ولغاتها ، فلم تساهم المدارس في  تعليم اللغة الكردية للمواطنين الكرد الذين يشكلون الغالبية في العديد من المدن الحدودية العراقية ، اضافة الى وجودهم باعداد كبيرة في بغداد وغيرها من المدن ، فعانى ابناء الكرد من صعوبة القراءة والكتابة باللغة الكردية ، لغتهم الام ، وانحسرت شيئا فشيئا اللغة الكردية من المدن التي يعيش فيها الكرد بكثافة لتصبح في زاوية الاهمال والنسيان .

وزاد المد الشوفيني القومي لدى الطغم الحاكمة في العراق وايران من اضطهاد الكرد وسحق ثقافتهم وافقارهم ماديا ومعنويا ، واستخدمت السلطات في العراق الاساليب الشريرة في القضاء عليهم وابادتهم من خلال حملات التهجير القسري والمقابر الجماعية وجعلتهم وقودا لحروبها العدوانية مع البلدان المجاورة وضحايا  للالغام والتجارب الكيمياوية والبايولوجية ، فقضت على الاف الاسر والعوائل ،  وحجزت الشباب وقضت على  الكثير من ابناء الكرد في بلاد الرافدين .

حاول العديد من مثقفي الكرد الذين ينتمون لتلك المناطق الذين عاشوا في الحواضر العراقية او الايرانية ، اداء قسط من واجبهم تجاه شعبهم وثقافتهم بما اتيحت لهم من امكانات ، فقدموا عصارة فكرهم باللغة الفارسية او العربية بسبب عدم توفر وسائل طباعة ونشر كردية ، وصعوبة ايصال افكارهم الى ابناء شعبهم ممن تعلموا ودرسوا باحدى اللغتين الفارسية او العربية في تلك المناطق .

يمثل  كتاب الباحث الكردي العراقي الدكتور اسماعيل قمندار ،دراسة اللهجات الكردية الجنوبية  ، الذي نشر ببغداد مؤخرا ضمن هذا الجهد الكبير ليضع لبنة اساسية في الدراسات اللغوية الاجتماعية والثقافية للكرد الذين توزعوا على طرفي خط الحدود العراقي الايراني ويسجل لهجاتهم وتراثهم الغني،  وقد اشار الباحث قمندار الى نقطة هامة حين ذكر في كتابه ما يلي :  ( يستخلص المرء ببساطة ، بأن وضعية انقسام كردستان بين عدة بلدان ، لا تجيز في الوقت الراهن تصورا عمليا للتوحد اللغوي الكردي ، وكل ما يمكن  بالتالي عمله ، هو المحافظة على كل واحدة من اللهجات على انفراد ، والدفاع عنها ) ص 114

تصدق هذه الملاحظة على تعدد اللهجات الكردية ، والفوارق التي خلقتها الظروف الطبيعية والاجتماعية ، اضافة الى انعدام الادارة السياسية الموحدة للمناطق المختلفة التي خضعت لثقافة رسمية مغايرة لثقافة ولغة القبائل الكردية التي تتحدث بلهجات مختلفة في تلك المناطق .

فان وسائل الاتصال التي تخضع للادارة السياسية مثل البث الاذاعي والتلفزيوني وصناعة السينما والصحافة ودور نشر الكتب والمدارس هي الوسائل الاساسية لتوحيد لهجات القبائل والشعوب المنضوية تحت ادارة سياسية تقود المجتمع عبر عقود من السنين فتخلق من خلالها مشتركات لغوية وبنية ثقافية

لها ملامح وسمات عامة موحدة ، وابسط مثال على ذلك ما لمسناه من تاثير السينما المصرية على الثقافة العربية ، اذ جعلت من اللهجة المصرية العربية لهجة شائعة ومعروفة  ، بينما ظلت اللهجة الجزائرية صعبة وقليلة التداول في العالم العربي .

وفي ذات السياق تاتي ملاحظته الناقدة ( وبشكل عام ادى الجهل العميق بوضع الكرد الجنوبيين ومجموعتهم اللهجية الكبيرة الى نسيانهم الغريب من قبل الممثلين الكرمانج والسوران في النقاشات المذكورة اعلاه حول توحيد الكردية ) ص 116

فقد تعرضت اللغة الكردية للكرد الجنوبيين -  في العراق يطلق عليهم تسمية  الفيلية - الى الحيف الكبير من قبل الشعب الكردي في اقليم كردستان تحت  ادعاء باطل بانهم وحدهم الكرد ، مما خلق حاجزا في التواصل بين الكرد شمالا وجنوبا وشرقا وغربا وتعرضت مجموعات بشرية كبيرة كردية الى التهميش الثقافي والسياسي . وفي ذلك ضرر كبير على عموم ثقافة الشعب الكردي ومصيره التاريخي في المستقبل .

هناك الكثير مما يكتب عن هذا الكتاب الموسوعة والذي فتح بابا كبيرا في عالم لهجات الكرد الجنوبيين وثقافتهم وتراثهم نامل ان تتاح فرصة تقديم الدراسات المكملة له من قبل الكتاب والباحثين الكرد لرفد الحركة الثقافية الكردية بالبحوث اللغوية والثقافية الضرورية لتطور الكرد في مختلف اجزاء كردستان .

* دراسة اللهجات الكردية الجنوبية ، د. اسماعيل قمندار ، دار  ومكتبة عدنان، بغداد 2014 .

عرض مقالات: