" لم نفترق ولكننا لن نلتقي ابدا!"

الشاعر الكبير محمود درويش                                   

الشهداء لا يرحلون، يمكثون في الذاكرة عميقا، ويواصلون الحياة معنا، كلما نستعيد ذكراهم، يطلون علينا بقامات شامخة فنستعيد بهم الحلم بالحرية والتحدي العنيد من أجل حياة أفضل.....  استذكر شذى واستذكر معها نخبة من الشباب الجميل الواعد بمستقبل مشرق ممن ضحوا بحياتهم في سوح النضال من أجل أن يعيش الانسان العراقي بكرامة وحرية وعدالة الاجتماعية.

شذى، اختي وصديقتي ورفيقتي ولها فضل كبير في تكوين وعيي الاجتماعي الأول ... كانت تصطحبين معها أينما تذهب ونعود ونناقش ما كنا قد اختزناه من ذاكرة ذلك اليوم وتقوم بتوضيح ما يخفى عليّ من مفاهيم ومن امور كانت تعتبر أسرار الكبار!  كانت منفتحة في علاقاتها صريحة تحب الناس، ذكية، لمّاحة وجريئة في طروحاتها وكنت أجد في مرافقتها شعورا بالدفء والاطمئنان لما تتمتع به من طاقة وحيوية وحب للحياة وللمبادئ التي تحملها.

نشأت شذى في عائلة دفعت ثمنا باهظا لمواقفها الوطنية والانسانية. لقد زرعت فينا العائلة الحب واحترام ضعف الانسان وكره الظلم والقهر والاستغلال. الأم والأب ينتميان إلى الأسرة التعليمية، وفّرا لنا فرص الانفتاح على الحياة، حسب الامكانيات المتاحة، من خلال العلم والثقافة واستغلال فرص التعلم وتنمية الفكر واكتساب الخبر ...

عائلة منفتحة على محيطها تتمتع بعلاقات وصداقات واسعة مع الجميع من خلال احترامها للعادات والتقاليد ومشاركة الجميع في مناسباتهم المختلفة. تعودت العائلة على النقاش بجميع المواضيع واتخاذ القرارات بشكل مشترك وتحمل مسؤولية القرارات المتخذة، مما نمّا في داخلنا الشعور بالمسؤولية والثقة بالنفس واحترام الرأي الأخر والمساواة، عدا الأعمال المنزلية فكانت حكرا على الأناس منهم فقط! لم يلعب الدين الدور الاكبر في حياتنا بل كان الضمير والشرف والرادع الانساني والاخلاقي هو المعيار الأساس في تعاملنا.

تميزت شذى بطبعها الاجتماعي واهتمامها بالشؤون العامة، كانت تجد دائما لغة مشتركة مع الناس عبر بساطتها ودماثة خلقها، وكانت من الطالبات الناشطات في كلية الصيدلة علمياً واجتماعياً، الى جانب نشاطها في اتحاد الطلبة العام في ظروف أمنية صعبة.

كانت تكره الظلم و الاستبداد و قمع الحريات و لها احساس مبكر بهموم الناس و معاناتهم، و خاصة معاناة النساء والأطفال، و ازداد احساسها بالمعاناة و تعمق وعيها بأحوال المجتمع بعدما باشرت مهامها الوظيفية كصيدلانية في مستشفيات في مناطق شعبية، مما دفعها للانضمام للحزب الشيوعي العراقي للدفاع عن مصالح الفقراء و الكادحين وضمان حقهم بحياة حرة كريمة لهم و لأطفالهم، و من خلال عملها في رابطة المرأة العراقية ساهمت بشكل فعال في برامجها و حملاتها من أجل النهوض بالمرأة لممارسة دورها الفعال في المجتمع كتنظيم دورات توعية صحية و أسرية وشجعت النساء على الاشتراك في دورات محو الامية إضافة الى حملات التلقيح ضد الامراض المعدية في المناطق الشعبية .

وساهمت مع فريق من الرابطيات في عام المرأة 1975 في عمل بحوث واستبيانات ودراسات للمشاكل والمعوقات التي تواجه المرأة وخاصة في المناطق الشعبية ووضع مقترحات والعمل على معالجتها. كانت فخورة بعملها رغم الجهود الكبيرة التي تبذلها والاجهاد الجسدي والفكري، حيث كانت تعمل صباحا بالمستشفى، ومساءً في صيدلية يذهب الراتب الذي تحصل عليه منها لدعم العوائل الفقيرة.  اختارت لحياتها طريقا شاقا كانت تدرك صعىوبته ولكن ما تحمله من وعي وفكر ثوري شد من عزمها على مواصلة الخطوات الاولى لبناء مجتمع حضاري متقدم يؤمن بالإنسان وقدراته ويؤمن باحترام حقوق المرأة ومساواتها، في بلد تتوفر فيه كل الامكانيات للبناء والتطور ليصبح في مصاف الدول الحضارية المتقدمة، يتمتع مواطنيه سواسية بحياة حرة كريمة آمنة تضمن احترام حقوقهم وحرياتهم. في مجتمع يسوده السلام خال من العنف والحروب.

في نهاية السبعينات و مع ازدياد الهجمة الشرسة للنظام الديكتاتوري، ضد القوى الديمقراطية وكل من يعارضه الرأي، و توجيهه ضربات موجعة و قاسية جدا، انتهاكات شنيعة لحقوق الانسان و للحريات الشخصية اعتقالات بالجملة و تعذيب وحشي و تصفيات جسدية و ملاحقات عصابات الأمن و الترهيب اليومي و اجبار الناس على دخول حزب البعث بالقوة، كانت  بداية لتدمير المجتمع و زرع الخوف داخله و تشويه كل ما هو جميل فيه!،  كنا نتابع الأخبار آنذاك بقلق عسى ان نلتقط بصيص أمل!, كنا ننتظر ونمنّي النفس بحملة تضامن عالمية تردع النظام عن الاستمرار بسياسته الوحشية. وهذا ما لم يحصل!

كانت هي رغم التحذيرات من الناس القريبين من النظام بأن تكف عن العمل السياسي لأن الموضوع جدّي أو ان تغادر العراق. لم يكن في حساباتها أن تغادر الوطن الذي أحبته ونذرت نفسها من أجله. كانت تأمل أن علاقاتها الاجتماعية الطيبة مع جميع من تعاملت معهم وقدمت لهم يد المساعدة، ومن ضمنهم البعثيين العاملين معها بالمستشفى، ممن حملوا لها كل الود والاحترام، أن يقفوا إلى جانبها، لأنها لا تحمل غير الحب وأحلام وطموحات لحياة أفضل! ... كنا نناقش هذه الأمور في وقتها يوميا ونعود دائما الى نقطة البداية لأننا لا نملك اي تصور لما هو آت!!!! كان تحديا شخصيا واخلاقيا أن تبقى انت الأقوى امام الجلاد!!! في حال تعرضك للاعتقال!

في مساء يوم 10/حزيران/1980 تم اختطاف شذى من البيت إذ لم يكن هناك أمر باعتقالها! غُيّبت منذ ذلك التاريخ! وتمت تصفيتها لأنها لم ترضخ ولم تتنازل عن الافكار الانسانية وعن ايمانها بقضيتها وعن كل المثل التي تحملها وعن حقها بالحرية والتعبير عن الرأي.

وها هي اليوم انتفاضة اكتوبر الشعبية الباسلة، التي جاءت كصرخة عقل في زمن ضاع فيه العقل! وفاجئت الجميع بقوتها وسلميتها وحسن تنظيمها وبالمشاركة الريادية للنساء فيها، حيث كسرن القيود والقوالب التي حاولت السلطات المتعاقبة حصرهن بها تحت مسميات ولبوسات مختلفة، متحديات كل مظاهر العنف والارهاب والتصفيات الجسدية في نضال عنيد من أجل استعادة وطن! تابعنا فرحين وقلقين بنفس الوقت اصرار المتظاهرين بالاستمرار حتى تحقيق المطالب! وكان يتراءى لي دوما طيفها وهو يشارك بكل نشاط وحيوية بالتظاهرات ووجهها الباسم ينشد مع الشابات” هايه بناتك يا وطن هايه..."

جيل جديد من الشابات، براعم قد أزهرت أملأ وتفاؤل وطاقات خلاقة، لفتت أنظار العالم كله!، بما يمتلكن من وعي وتصميم وآليات عمل وخبرات متراكمة وتجارب من سبقنهن في سوح النضال العنيد. مؤكدين ان جذوة النضال والتحدي من أجل حقوق الانسان وحقوق المرأة وحرية الفكر لا يمكن تخبو! وها هي اليوم تسطع في سماء العراق شموسا صغيرة سيشتد نورها مع الوقت لتضيء مستقبلا أفضل أكثر انسانية وتحضر وحرية. وها هي شذى تسير معهم حاملة شعار "المساواة للمرأة والسعادة للطفولة في وطن آمن".

ما علينا ألا ان نتقبل بشجاعة وصبر فقدانك أيتها الغالية ولكنك ما زلت بيننا بثرائك الروحي والانساني وبقيمك النبيلة، التي لم يستطيعوا مساومتك عليها.  ستبقين شابة جميلة تهتمين بأناقتك، تهمسين بحب للحياة وللحرية ... وهكذا مرت السنين وأصبح في العائلة شذاوتان شابتان رائعتان سمّيتا تيمنا بكِ، تخرجن طبيبات يواصلن مهنتهن في خدمة الناس كما كنتِ أنت يا شذى العمر.

عرض مقالات: